كلمة السيدة آمنة بوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان السياسات العمومية ورهان تعزيز فعلية الحقوق طلبة ماستر حقوق الانسان - جامعة وجدة




 

وجدة 30 ماي 2022

ما هي المؤسسات الوطنية لحقوق الانسان، هي جسور بين الدولة والمجتمع، بين الفرد والمؤسسات، وبين المجتمع المدني والمؤسسات وما بين الاخيرة وطنيا ودوليا، لديها القدرة على أن تلعب دورًا رئيسيًا في حماية حقوق الانسان والنهوض بها

وليقوم المجلس الوطني بهذا الدور، أطلق خلال هذه الولاية استراتيجية فعلية الحقوق، وليأخذ بعين الاعتبار ليس فقط العوامل القانونية بل الغير القانون في عمله.

 

 كيف ذلك؟

اعتمد المجلس نهجا شموليا من خلال الجمع ما بين التفكير والتشاور والفعل وهو ما أطلقنا علية بالمقاربة ثلاثية الابعاد الوقاية من الانتهاكات، حماية الضحايا من الانتهاكات والنهوض بحقوق الانسان.

الهدف منها تعزيز مكتسبات المجتمع في مجال حقوق الانسان، والتي قاتلنا طويلا وبشدة لتأمينها ومن المهم ان تمتد للفئات التي تم تغييبها في السياسات العمومية لمدة طويلة

ما هي الفعلية؟

هي بمثابة منهجية في التفكير والممارسة تساعد على تعزيز قدرة الفاعلين على فهم قضايا وإشكالات حقوق الإنسان، كما تساعد على تطوير صيغ وأشكال حضور حقوق الانسان في النقاش العمومي حول قضايا التنمية بشكل عام.

وإذا كانت جائحة كوفيد 19 قد أكدت أهمية اختيار المجلس الوطني لحقوق الانسان الفعلية كاستراتيجية في التفكير والعمل، بحكم انها أظهرت الحاجة الملحة للاهتمام اكثر بالعوائق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تحول دون الولوج الفعلي للحقوق والحريات المنصوص عليها في القوانين، فإنها بالمقابل، قد أعادت تعريف مشكلة التنمية (تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية 2020) وسلطت الضوء على التداخل الكبير بين مختلف أبعادها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والبيئية،

وهو ما يضع المجلس أمام تحدي مواصلة إعمال استراتيجية فعلية الحقوق بنفس جديد يأخذ بعين الاعتبار الدروس المستخلصة من التمرين الحقوقي الذي فرضته الجائحة.

وقبل عرض السياسات العمومية كمجال لكسب رهان تعزيز فعلية الحقوق اسمحوا بإثارة بعض العناصر بمسألة الفعلية التي اعتمدها المجلس كاستراتيجية خلال الولاية الحالية:

-        أولا: إن التفكير في فعلية الحقوق والحريات لا ينبغي أن يقتصر على مساءلة القوانين وتقييم قدرتها على تغيير الواقع وتيسير ولوج المواطنين لحقوق الإنسان الأساسية. فإذا كان من البديهي أن ينصرف التفكير إلى الترسانة القانونية والمؤسساتية فإن ذلك لا ينبغي أن يحول دون إيلاء العوامل الغير القانونية extra juridique الأهمية التي تستحقها وخاصة العوامل المرتبطة بالشروط السوسيو اقتصادية؛

-         ثانيا: إن كسب رهان تعزيز فعلية الحقوق والحريات لا يمكن اختزاله، بأي شكل من الأشكال، في مسألة تطبيق القوانين، مادامت قدرة التشريعات في مجال حقوق الإنسان على تغيير واقع الناس نحو الأفضل مرتبطة بشكل وثيق

بالتقدم الذي يتم إحرازه على مستوى التنمية ليس في بعدها الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل كذلك في أبعادها السياسية والثقافية.

-        ثالثا: إن مسألة الفعلية تبقى دائما مسألة نسبية وجزئية. غير أن القول بنسبية فعلية الحقوق والحريات لا ينطوي على أي نزعة تبريرية للنقائص والاختلالات وأوجه القصور التي قد تعتري عمل الفاعلين والمؤسسات المعنية. إن النسبية تعني هنا فقط أن فعلية الحقوق والحريات، وإن كانت قابلة للقياس عبر مؤشرات دقيقة وواضحة فإن تكريسها يحتاج إلى عمل واجتهاد مستمرين لإزاحة العوائق التي تحول دون التطبيق الأمثل للقوانين وتحد من تأثيرها في واقع الأفراد والجماعات وقدرتهم على الاستفادة القصوى من الحريات والحقوق.

ووقف المجلس، على السياق الوطني على العديد من مظاهر ضعف البعد الحقوقي للسياسات التنموية وهو ما يتجلى من خلال عدة مؤشرات أبرزها:

1.    الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية للدولة، وضعف النفس الاستراتيجي البعيد المدى في أغلب السياسات العمومية الاجتماعية.

2.    تعدد الفاعلين والبرامج والسياسات وضعف الالتقائية والتكامل بين هذه المكونات وضعف ثقافة تقييم السياسات العمومية مما يصعب قياس نتائجها، التي ظلت في معظمها تعتمد لمنطق الحاجيات بدل الحقوق مما يجعل تأثيرها في تقليص الفوارق بكل أنواعها محدودا.

3.    وجود علاقة سببية مباشرة بين التدهور المستمر للمحيط البيئي للإنسان وبين تزايد رقعة الفقر واستفحال التفاوتات في الولوج لحقوق الإنسان الأساسية.  مما يؤشر على ارتفاع كلفة التدهور البيئي الناتج عن ضعف أو غياب التدبير الرشيد للنفقات والموارد غير المستدامة[1]، (إتلاف الأراضي الزراعية بمبرر البناء الاقتصادي، تأثير بناء السدود والطرق على الأنساق الحيوية، تلوث الهواء، الصيد المكثف،...).

4.     عدم قدرة السياسات التنموية المتبعة على تقليص التفاوتات المجالية، بين الحواضر والبوادي أو بين المركز والهامش داخل الحواضر، والاجتماعية لم تتمكن السياسات التنموية المتبعة من تقليصها.

إن الرغبة في مواجهة هذه التفاوتات وتصحيح الاختلالات في التوزيع هو ما جعل منظمة الأمم المتحدة تولي اهتماما متزايدا بمسألة إدماج حقوق الإنسان في الاستراتيجيات التنموية وهو ما تعكسه مختلف الأدبيات التي أنتجتها مختلف مكونات نظام الأمم المتحدة لحقوق الإنسان والتي تلتقي جميعها في ما يسمى بالمقاربة القائمة على حقوق الإنسان في بناء السياسات العمومية والتي تتأسس على مجموعة من المبادئ أهمها:

1.    مبدأ المشاركة: إعطاء المواطنين إمكانيات المشاركة في القرارات التي تؤثر في تمتعهم بحقوقهم.

2.    مبدأ المساءلة: عبر إرساء نظام رقابة فعلي لمدى احترام معايير حقوق الإنسان، وإيجاد حلول مبتكرة وفعلية لمعالجة الخروقات؛ وأن يراعى في القوانين والآليات ذات الصلة المزاوجة بين الدور التربوي الإصلاحي والدور العقابي الردعي.

3.    مبدأ المساواة وعدم التمييز: ويتأسس على تفادي ومحاربة كل أشكال التمييز بين الناس. بسبب الجنس، اللغة، السن، العرق، أو الانتماء المجالي (حضري/قروي)؛ وإعطاء الأولوية للمناطق الأكثر هشاشة وإيجاد وسائل مبتكرة لتمييزها إيجابيا كوسيلة لإنصافها.

4.    مبدأ التمكين: ويتأسس هذا المبدأ على اعتماد مقاربة في تدبير الشأن العام محليا ووطنيا تستهدف جعل الأفراد والجماعات قادرين على فهم ومعرفة حقوقهم، وجعلهم في وضع يسمح لهم بالمشاركة في تطوير السياسات والقرارات التي تؤثر في حياتهم

انطلاقا من هذه المبادئ، ما هي المداخل لإدماج حقوق الانسان في السياسات العمومية

أولهم اعتماد مقاربة استباقية في حماية تعزيز الحقوق والحريات

تبين العديد من الدراسات والتقارير وضمنها تقارير المجلس الوطني لحقوق الانسان أن ضعف مستوى فعلية حقوق الإنسان بالمغرب يعود بالأساس إلى المقاربة المبنية على الحاجيات في معالجة القضايا التنموية، دون استحضار تمفصلات التنمية مع الحقوق والحريات. إن ذلك لم يعد ممكنا بالنسبة لمسألة الولوج لحقوق الإنسان الأساسية (الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالأساس). وبناء عليه فإن التفكير في سبل وآليات دعم فعلية الحقوق والحريات ينبغي أن تستبدل المقاربة العلاجية وأسلوب الانتظارية، بمقاربة استباقية قائمة على تخطيط يسمح بتوقع الإشكاليات. إذ لم يعد ممكنا السماح بتراكم الخصاص والعجز في ولوج المواطنين لحقوق الإنسان الأساسية كالتعليم والصحة،

 

ثانيهما الانتقال من فهم الفقر كمشكلة اقتصادية الى اعتباره مشكلة حقوقية

لقد بذلت جهودا جبارة على امتداد العقدين الماضيين في مجال محاربة الفقر والتهميش، سواء في إطار أوراش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي انطلقت في 2005، أو البرامج مؤسسة محمد الخامس للتضامن سنة 1999، أو البرامج القطاعية. وساهمت هذه المبادرات والبرامج في تحسين أوضاع فئات واسعة من المواطنين، ولذلك يمكن القول أن الاختيارات الإستراتيجية البديلة في مجال محاربة الفقر ينبغي أن تنطلق من تقييم شامل لهذه البرامج بغرض ترصيد إيجابياتها والعمل على تجاوز ثغراتها.

 و رغم الأهمية المحورية التي يكتسبها البعد الاقتصادي للفقر، إلا أن الاقتصار عليه يؤدي إلى حجب العوامل غير الاقتصادية التي تلعب دورا كبيرا في إنتاج ظاهرة الفقر، كما أن برامج الدعم والمساعدة الاجتماعية وإن كانت ضرورية للتخفيف من الآثار الاجتماعية للفقر، فإنها تبقى ذات تأثير محدود فيما يتعلق بمحاربته أو التقليص منه.

نرى بالمجلس من الضروري التعامل مع ظاهرة الفقر كشرط قبلي لتحقيق التنمية. وذلك عبر تجاوز التفسير الاقتصادوي الضيق لظاهرة الفقر. وهو ما يعني التركيز على مواجهة الأسباب غير الاقتصادية للفقر والعوامل الثقافية /القيمية، البيئية والسياسية المتعلقة بأساليب تدبير الشأن العام وأنظمة الحكامة؛

إن اعتماد المقاربة الحقوقية في محاربة الفقر، يعني أن الاختيارات التنموية البديلة ينبغي أن تقوم على تصور للفقر باعتباره خرقا لحق من حقوق الإنسان، وهو الحق في التنمية، وأن النظر إلى الفقر من زاوية الحق في التنمية يقتضي إحداث قطيعة مع المقاربة القائمة  فقط على الدعم والمساعدة الاجتماعيين، إعمال  مقاربة قائمة على تمكين الفقراء .إن الانتقال من منطق المساعدة إلى منطق التمكين هو نتيجة حتمية لاعتماد المقاربة الحقوقية في محاربة الفقر، حيث أن هذا الأخير ،من زاوية حقوقية، يحيل بالأساس على عدم تمكن الأفراد من مجموعة من القدرات؛ 

اعتماد المقاربة القائمة على حقوق الانسان في اعداد وتنفيذ السياسات العمومية

استلهاما للتجارب والممارسات الفضلى المتواترة على الصعيد الدولي، وأخذا بعين الاعتبار طريقة تنظيم السلطة والمسؤوليات وتمفصلها في الدستور المغربي، يمكن اعتماد مقاربة تنموية دامجة لحقوق الإنسان على مستويين متكاملين: مستوى الاختيارات الاستراتيجية الأساسية للدولة من جهة، ومستوى السياسات العمومية من جهة ثانية.

 إذ يمكن القول أن المنهجية الأكثر ملاءمة في الوقت الحاضر، لبناء تنمية دامجة لحقوق الإنسان وحسب التجارب الدولية المقارنة، هي صياغة السياسات اعتمادا على المقاربة المبنية على حقوق الإنسان المعروفة بمبادئ PANEL   وهي المشاركة، المسائلة، عدم التمييز، التمكين والشرعية المشار اليها في بداية هذه المداخلة.

غير أننا ارتأينا في المجلس، وانسجاما منه مع ما تقتضيه ضرورة التكامل والملاءمة بين الفكر الحقوقي الكوني والمتطلبات الخاصة بالسياق الوطني، إضافة مدخلين آخرين يتعلق أحدهما بالجانب الثقافي والقيمي ويهم الثني بالاستدامة نظرا للطابع العرضاني لهذين البعدين في كل فعل تنموي.

 

أولوية الحد من التفاوتات الاجتماعية والمجالية

لقد أعادت تداعيات جائحة كورونا التأكيد على أن الإنسان هو محور التنمية وان كل انجاز على مستوى النمو الاقتصادي يبقى هشا ومهددا بالانهيار إذا لم يتأسس على محورية دور الإنسان فيه. وقد يتطلب استيعاب هذا الدرس وقتا طويلا ليتحول إلى براديغم Paradigme موجه للنظريات الاقتصادية وقادر على تصحيح اختلالات السياسات التنموية على الصعيد العالمي، غير انه من المؤكد أن هذه الجائحة أثبتت أن حقوق الإنسان الأساسية تشكل البنية التحتية لكل فعل تنموي مستدام وحقيقي ذلك أن التفاوتات في الولوج للحقوق الأساسية والفقر والهشاشة الاجتماعية تشكل عائقا حقيقيا أمام جهود الدولة بمختلف مؤسساتها لمواجهه الجائحة..

ضرورة اضطلاع الدولة بدورها كاملا في ضمان الحقوق وحمايتها

لا شك أن هناك حاجة ملحة للعمل على التوفيق بين ما تفرضه التحولات التي رافقت الانتقال من دولة الضبط régulation إلى الدولة الراعية providence وبين ما يقتضيه التعاطي مع الخصاص الكبير المسجل على مستوى الولوج لحقوق الإنسان الأساسية

 وقد سبق للمجلس أن أكد في كل تقاريره السنوية   منذ 2019 على محورية دور الدولة في السياسات العمومية بشكل عام، وفي السياسات العمومية الاجتماعية بشكل خاص وهو ما اثاره بشكل كبير التقرير الأخير حول الحق في الصحة، باعتبار أن الدولة تبقى هي الجهة ذات الاختصاص الأصيل في مجال تحقيق الصالح العام. ويمكن للدولة تعبئة كل الموارد المادية وغير المادية الضرورية لمباشرة تحقيق هذه الغاية، في إطار احترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان والديمقراطية والحكامة الجيدة.

بناء اقتصاد قادر على تمويل الحقوق

يرى المجلس الوطني لحقوق الإنسان أنه بات من الضروري جعل البعد الحقوقي للضريبة أحد مرتكزات الإصلاح الضريبي في بلادنا. واعتبارا للتراكم الحاصل على مستوى النقاش العمومي حول الإصلاح الضريبي سواء من خلال المناظرات الوطنية أو من خلال الأبحاث العلمية والتقارير الموضوعاتية المتعلقة بتقييم النظام الضريبي المغربي، فإننا نسجل اهمية المصادقة على قانون الاطار للضريبة وعلى ضرورة جعل النظام الضريبي رافعة لدعم فعلية الحقوق في بلادنا.

اجراء اصلاح عميق للمرفق العمومي

تشكل أزمة المرفق العام أحد أوضح التجليات لهذا التحول في وظائف الدولة، ليس فقط على الصعيد الوطني بل أيضا على الصعيد العالمي. وفي المغرب يمكن القول أن تراجع أدوار المرفق العمومي يعتبر سببا رئيسيا ومباشرا في اتساع دائرة الفقر والهشاشة الاجتماعية، خاصة حينما يتعلق الأمر بمرفقي الصحة والتعليم، إضافة إلى الخدمات الأخرى التي يلجأ اليها المواطن. ويمكن تلخيص أهم الإشكاليات التي تحد من فاعلية ونجاعة المرافق العمومية، ضعف الاعتمادات المالية المرصودة التعليم والصحة؛ وتجاهل التفاوتات المجالية ذات الصلة والاختلالات في مجال تدبير الموارد البشرية، وغيرها من الأسباب.

إن الوعي بالطابع المتداخل والمركب لقضايا التنمية وحقوق الإنسان، يستدعي إعمال منهج للتفكير وبرنامج عمل لكل المتدخلين في مجال التنمية وحقوق الانسان، لمواجهة التحديات التي تعرفها وستعرفها عملية تدبير الشأن العام في مجتمع المخاطر لما بعد أزمة كوفيد19 وعلى مستويات متعددة، وإعادة ترتيب أولويات السياسة العامة للدولة في اتجاه تصحيح التفاوتات الحادة التي ترمي بفئات واسعة خلف ركب التنمية وتعيق الولوج الفعلي للحقوق،

 

 



[1] تقدر تكلفة تدهور البيئة في المغرب بأزيد من 3,3 % من إجمالي الناتج الوطني سنة 2014، ن.م. ص. 13.

Comentarios