كلمة السيدة آمنة بوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الانسان سنة بعد إطلاق المحاكمة عن بعد

 



 


السيد وزير العدل؛

السيد الأمين العام للحكومة؛

السيد الرئيس المنتدب للسلطة القضائية؛

السيد رئيس النيابة العامة؛

السيد المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الادماج؛

السيد رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرf

الحضور الكريم

 

يسعدني أن أشارككم في أشغال هذه الندوة التي تنعقد سنة بعد اطلاق المحاكمة عن بعد في سياق تدبير تداعيات انتشار جائحة كوفيد 19 , لقد رحب  المجلس بهذه المبادرة الهادفة إلى الحد من آثار وباء الفيروس على سير عمل نظامنا القضائي، واحترام المواعيد النهائية لمعالجة الملفات القضائية، في إقامة محاكمات عن بُعد، وهو الأمر الذي لا شك احتاج إلى جهد هائل لتلبية الحاجة بطريقة سريعة ومنظمة.

لقد فرضت الجائحة التسريع بإعمال المحاكمة التي انطلقت في 27 أبريل 2020، واثارت تساؤلات حول ضمان عدالة المحاكمة، بما في ذلك السؤال الأساسي حول شرعية المحاكمة عن بعد وحماية حقوق الإنسان المتقاضين ذات الصلة بتنظيم جلسات استماع أولية في لائحة الاتهام والاستئناف عن بُعد عن طريق التداول بالفيديو.

ووفق المبدأين 11 و 12 من مبادئ سراقوسة التي أقرتها مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فإن كل تقييد يمس بالعلنية والمثول الجسدي للمتهم أمام القضاء وبجانبه محاميه يكون مبررا إذا كان سببه مرتبطا بالنظام العام وحفظ الصحة العامة.

ولئن كان الرجوع إلى هذه المرجعيات يبرز أن نظام المحاكمة عن بعد لا يشكل من حيث المبدأ مسا بالمحاكمة العادلة أو تهديدا لها، فإنه يؤكد أن عدالة هذه المحاكمة رهينة بمدى تجسيدها لمبادئ الضرورة والتناسب والشرعية وسيادة القانون والتوازن بين الأطراف، وبمدى استجابتها لقواعد العدل والإنصاف واحترامها لحقوق الدفاع. وهو ما عبرت عنه بوضوح اجتهادات المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان، حينما اعتبرت أن اللجوء الى تقنيات التواصل عن بعد في إجراءات المحاكمة لا ينقص، بحد ذاته، من ضمانات المحاكمة العادلة، ما دام أن الهدف من اللجوء الى هذه الوسائل هدف مشروع، وأن الوسائل المستعملة في ذلك لا تتعارض مع حقوق الدفاع[1].

كما حث مجلس حقوق الانسان، في قرار حديث[2] في يوليوز 2020، الدول على ضمان أن تكون لدى السلطات القضائية الموارد والقدرات اللازمة للمساعدة في الحفاظ على الخاصية الوظيفية، والمساءلة، والشفافية، والنزاهة، وضمان مراعاة الأصول القانونية واستمرارية الأنشطة القضائية، بما في ذلك الوصول الفعال الى العدالة، على نحو يتسق مع الحق في محاكمة عادلة، وغير ذلك من الحقوق والحريات الأساسية، خلال الحالات الاستثنائية بما فيها جائحة كوفيد 19 وحالات الأزمات الأخرى.

الحضور الكريم؛

لقد مكن اعتماد نظام المحاكمة عن بعد منذ سريانه من تحقيق نتائج عكستها الاحصائيات الدورية، التي ينشرها المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو ما يبدو من خلال عدد الجلسات المنعقدة عن بعد، وعدد القضايا المدرجة فيها، والتي تسائلنا عن أهمية تتبع المؤشرات المتعلقة بها كل أسبوع.

وإذ يسجل المجلس الوطني لحقوق الانسان هذه الجهود المبذولة إلا أنه يلاحظ، حسب المعطيات الميدانية المتوفرة لديه، أن إعمال نظام المحاكمات عن بعد في القضايا الجنائية والجنحية التلبسية لم يخل من بعض الإشكاليات المقلقة، التي يمكن إجمالها فيما يلي:

·               رغم تقييد تطبيق المحاكمة عن بعد بموافقة المتهم أو الظنين، وبتنازله عن الحق في المحاكمة الحضورية، فإن إشكال وضعية المعتقلين الاحتياطيين الذين يتمسكون ودفاعهم بالحق في الحضور يبقى مطروحا. ما دام تشبثهم بهذا الحق يؤدي، في بعض الأحيان، إلى تأجيل البت في قضاياهم، وهو ما قد يشكل إخلالا بمبدأ الحق في المحاكمة داخل أجل معقول باعتباره من أهم مبادئ المحاكمة العادلة وشروطها. علما بأن الاحصائيات المتاحة لا تتضمن أي إشارة الى الذين تشبثوا بمبدأ الحضورية، ولا إلى طبيعة القضايا المتابعين من أجلها، ولا إلى نوعية الإجراءات المتخذة لضمان حقهم في المحاكمة داخل أجل معقول.

·               رغم أهمية الجهود المبذولة على مستوى اللوجستيك، يلاحظ استمرار تسجيل صعوبات تقنية ولوجستيكية الناتجة عموما عن ضعف الصبيب، وتزامن توقيت انعقاد عدة جلسات داخل دائرة النفوذ التابعة لبعض المؤسسات السجنية. وهو ما يؤدي الى ارتباك على مستوى توقيت انعقاد الجلسات ويؤثر بالضرورة، سلبا، على وضعية أطراف الدعوى العمومية والمدنية، حيث يضطرون الى الانتظار لمدة ساعات، فضلا عن صعوبة اطلاع المتهمين على محضر التصريحات، وصعوبة اطلاعهم أيضا على المحجوزات وما إليها من أدوات الاقتناع ومواجهتهم بها، إلى جانب الإشكاليات المتعلقة بالتواصل بين المتهمين ودفاعهم.

·               يسجل المجلس أن الجهود المتخذة لإعمال تجربة المحاكمات عن بعد، على مستوى المحاكم، لم تستحضر وضعية بعض الفئات وحقهم في الولوج إلى العدالة وفي الانتصاف، ومن بينهم الأشخاص في وضعية إعاقة سمعية بصرية.

·               فضلا عن ذلك، فإن اللجوء الى اعتماد نظام المحاكمة عن بعد ما يزال يطرح إشكاليات جوهرية ترتبط بالسند الشرعي لهذه المحاكمات في غياب أي نص قانوني يحفظ، في سياقها، حقوق جميع أطراف الدعوى العمومية والمتدخلين فيها، ويضمن التوازن الضروري فيما بينها، ويعطي لمبدأي الحضورية والتواجهية معناهما الكامل.

السيدات والسادة

ان التحولات الرقمية التي يشهدها العالم المعاصر في شتى المجالات من شأنها أن تجعل من استخدام التكنولوجيا في مجال التقاضي خيارا استراتيجيا، ليس فقط خلال فترات الأزمات، بل في الأحوال العادية أيضا. فالاستفادة من التحولات الرقمية وتوظيفها في تسهيل الحق في الولوج الى العدالة والحق في الانتصاف والحق في صدور الأحكام القضائية داخل آجال معقولة، سيساهم لا محالة في ضمان الحق في التقاضي كما أن استخدام التكنولوجيا الحديثة يساعد على الحد من التنقل وتقليص التكاليف واحترام الآجال المعقولة، غير أنه ينطوي على عنصر تقليص الطابع الإنساني لعملية المحاكمة خاصة "مبدأ الحضورية".

ونذكر في هذا المجال بقرار مجلس حقوق الانسان الأخير الذي حث فيه الدول على توفير ما يوجد حاليا من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والحلول المبتكرة باستعمال الانترنيت التي تتيح إمكانية الاتصال الرقمي، للمساعدة على ضمان الوصول الى العدالة واحترام الحق في محاكمة عادلة (...)، وعلى ضمان أن تكون السلطات القضائية، وغيرها من السلطات الوطنية المعنية، قادرة على وضع الإطار الاجرائي والحلول التقنية اللازمة لهذه الغاية.

لقد أحدثت الرقمنة المتسارعة، ثورة حقيقية في مجال العدالة. فلا يتعلق الامر، خلال المحاكمة عن بعد، بملئ استمارة أو بتقديم شكوى عبر الانترنت، بل إن قلب ما هو من صميم سيادة القانون يسائلنا في اعماله!

وتطرح مثلا، المحاكمة عن بعد صعوبات للمعتقلين الذين هم في وضعية إعاقة او الذين يعانون من اضطرابات نفسية ليستفسدوا من ظروف ملائمة لمحاكمتهم. أوصت، في هذا الصدد، المحكمة الأوروبية، مثلا، بتحديد شهادة الأهلية للمحاكمة الافتراضية وبمراقبة طبيب المؤسسة السجنية. ولا نتوفر، بالمجلس، على معلومات بخصوص ظروف المحاكمة عن بعد لهذه الفئة.

الحضور الكريم

إننا بالمجلس لدينا أسئلة وتساؤلات بخصوص المحاكمة عن بعد، ومنها ما هي آثار هذا التحول الجوهري لممارسة السلطة القضائية على عدالة المحاكمة وعلى المجتمع بصفة عامة؟ ما هي مزايا وعيوب هذه الثورة التي سرعت بها حالة الطوارئ وغير الخاضعة لإطار تشريعي أو قانوني واضح؟ وكيف يمكن التوفيق بين تحديث المحاكمات عن بعد وبين قانون الإجراءات الجنائية التي تم وضعها في الستينات من القرن الماضي؟ وما هو إطار العمل الجديد لهيئة العدالة ضمن نظام الرقمنة؟

نحن، إذن، وبعد سنة من إطلاق المحاكمة عن بعد، بحاجة لدراسة ميدانية وقانونية واجتهادات فقهية تمكننا من تدعيم التدابير الناجحة واقتراح مسارات لتجاوز الاكراهات وبلورة المساطر الضرورية لتوفير شروط المحاكمة العادلة. ولا بد هنا من التأكيد على أهمية التسريع بمراجعة المسطرة الجنائية لتتلاءم، مع المعايير الدولية ومع مستجدات المحاكمة عن بعد.

إن هذه التلاؤمات ستشكل عنصرا ديناميكيا في جدلية الأزمة-المواجهة-والتجاوز، مما سيسمح بتحقيق التقدم والفعالية في اليقظة القضائية الساهرة على ضمان المحاكمة العادلة. وليتمكن المغرب من الخروج بتراكمات نوعية قادرة على تعبئة كل الموارد البشرية والمادية المتاحة لمواجهة الأزمات والطوارئ بتكريس دولة الحقوق والحريات.



[1]- قرار بتاريخ 05/10/2006 في القضية عدد 04/46106.

[2]- القرار رقم 44/9، يتعلق باستقلال وحياد السلطة القضائية، والمحلفين والخبراء القضائيين واستقلال المحامين، صادر بتاريخ 16/07/2020، الفقرتان 17 -18، يمكن الاطلاع على القرار في الرابط التالي:

https://undocs.org/en/A/HRC/RES/44/9

 

Comentarios