صخب التسيب المالي والفوضى السياسية بالمغرب بقلم المختار الغربي




     خلال الخمس سنوات الماضية دأب المجلس الأعلى للحسابات على إصدار تقارير صادمة وقوية حول الحالة المالية ووضعية المؤسسات والمقاولات العمومية، بعد افتحاصها والتعرف على مساوئ تدبيرها وحالتها الكارثية، وكلها مجرد بالونات منتفخة تنفجر بمجرد إطلاقها دون أن تخلف أية أضرار لا على مستوى تلك المؤسسات ولا على مستوى من يتحمل مسؤوليتها، وبعد أيام تعود الحالة إلى طبيعتها المستفزة، فلا المؤسسات قامت بواجب تصحيح مسارها وإصلاح أعطابها ولا مسؤوليها خضعوا للبحث والمحاسبة.

     من بين ركام مظاهر الفساد والتخريب اكتشفنا في تقرير للمجلس الأعلى للحسابات حالة أكثر من 200 مؤسسة ومقاولة عمومية تعيش تسيبا وفوضى واختلالات عميقة كلفتها مليارات من الدولارات وليس الدراهم؟

     تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول هذا الموضوع لخص أكبر مظهر من مظاهر التخريب المالي والاقتصادي في المغرب بفعل وتواطئ وحماية جهات من داخل مؤسسات النظام السياسي  حول أزمة هذه المؤسسات التي تتميز ب:
 - لا رؤية واضحة،
- لا مقاربة مندمجة،
- لا دراسات جدوى تسبق تأسيس هذه المقاولات،
- لا حدود مرسومة لاختصاصاتها،
 -لا قيمة مضافة لغالبيتها الساحقة،
-لا أطار قانوني واضح لصلاحياتها وفي علاقتها بالوزارات التابعة لها…
هذا هو المشهد العام الذي يرسم الوضع الكارثي لـ200 مؤسسة ومقاولة عمومية تشغل 130 ألف مستخدم وفي يدها 200 مليار درهم (رقم المعاملات)، لكن الحكامة غائبة عن 99٪‏ منها.

     المجلس الأعلى للحسابات يؤشر على أن المؤسسات والمقاولات العمومية غارقة في مديونية كبيرة (245 مليار درهم)، أي حوالي 25% من الناتج الداخلي الخام للبلاد، وأن الدولة تخسر سنويا على هذه المؤسسات أكثر من 20 مليار درهم، وأن عائداتها على الخزينة متواضعة جدا، فمثلا من 2010 إلى 2014 أعطت الدولة هذه المقاولات والمؤسسات العمومية 159 مليار درهم، فيما لم تعط هذه المؤسسات والمقاولات العمومية للدولة سوى 53 مليار درهم، وجل هذا المبلغ أتى من أربع مقاولات لا أكثر، وهي المكتب الشريف للفوسفاط، وصندوق الإيداع والتدبير، واتصالات المغرب، التي تملك فيها الدولة 30%، والمحافظة العقارية، الباقي لا يعطي الدولة شيئا، ويأكل كل سنة من خزينة المغاربة.

     وإذا حدث أن واحدة من تلك المؤسسات العمومية ربحت بعض الدراهم فإنها تعمل بالمثل الدارج الذي يقول: “خيرنا ما يديه غيرنا”، حيث إن أرباحها تصرف على الأجور الكبيرة لمديريها، وعلى الامتيازات التي يحيطون أنفسهم بها (جيش مستخدمي هذه المقاولات والمؤسسات العمومية يصل إلى 129 ألفا، وكتلة أجورهم تمتص 45٪‏ من القيمة المضافة، ما يعني أن نسبة كبيرة من الأرباح يستفيد منها المستخدمون).
      تلك المؤسسات والمقاولات تشتغل كجزر معزولة عن الحكومة وعن الوزارات التابعة لها، ومنها من خلق من عدم، أي بدون نص قانوني، والتي خلقت بنص قانوني فهو نص معيب وناقص، حيث لا يوفر للوزراء الذين يرأسون المجالس الإدارية لهذه المؤسسات والمقاولات أي دور في التخطيط والمراقبة والتنسيق… والنتيجة ما نراه ونعيشه  الآن من هدر للمال العام كان يمكن أن يذهب لتخفيف آلام ملايين المغاربة، ولبناء مستقبل أفضل مما هو أمامنا الآن.

     من المعروف بأنه في المغرب توجد حكومتان أو أكثر؛ حكومة التلفزيون وحكومة المؤسسات والمقاولات العمومية التي لا تظهر في الإعلام ولا في البرلمان ولا يوم الانتخابات، في حين أنها تتحكم في مفاصل القرار الاستراتيجي الاقتصادي والمالي والاجتماعي واللوجستيكي للبلاد.

     السبب وراء هذه الحالة السريالية هو العجز الديمقراطي، حيث جرى  عبر سنوات إبعاد المؤسسات العمومية والمقاولات الإستراتيجية عن أي إشراف حكومي أو رقابة برلمانية أو شعبية، ويكفي أن نعرف أن صندوق الإيداع والتدبير ومنذ 60 سنة على إحداثه لم يزره المجلس الأعلى للحسابات إلا مرة واحدة قبل سنتين، وإلى الآن لم يصدر أي تقرير عن أوضاع هذه المؤسسة التي يرى الكثيرون أنها علبة سوداء بها مليارات الدراهم ولا أحد يحاسب إدارتها ولا أحد يعرف ما بداخلها.

     في ظل هذه الوضعية المأساوية لمؤسساتنا، لا أحد فكر وقدر دخول عش دبابير هذه المؤسسات وإعادة هيكلتها وإلغاء جلها ومحاسبة مديريها، وتحديث إطارها القانوني، وخوصصة بعض النشاطات التي يمكن للخواص القيام بها، بل اكتفوا بإعطاء الملك حق التعيين فيها وابتعدوا إلى الخلف يتفرجون ويطورون لغة التنديد، حتى المدير الوحيد الذي ذهب إلى المحكمة (الرئيس المدير العام لصندوق الإيداع والتدبير أنس العلمي) لم يذهب سوى بأوامر ملكية بعدما وصلت شكايات إلى القصر من مهاجرين ضحكت عليهم.


Comentarios