CON ACENTO MARROQUI يقدم كتاب حفريات من زمن اليأس للمختار الغربي الجزء 23


للذين لم يتمكنوا من الاطلاع على الكتاب، ننشر تباعا المقالات التي يتضمنها كما صدرت في حينه وحسب تواريخ نشرها



المنصب، المقابلة والشخص (القافز)
قبل عدة أشهر أعلنت إحدى الكليات عن رغبتها في توظيف شباب متخصص في تكوين معين ليشغلوا مناصب إدارية، تم استقبال المرشحين فيما يسمى بالمقابلة، وبعدها بأيام قليلة نودي على من وقع عليهم الاختيار. وبالصدفة، التقى أحد معارفي مع واحدا من المترشحين الذين لم يحالفهم الحظ للحصول على المنصب مع أستاذ يشتغل بالكلية، وهو واحد من أعضاء اللجنة التي قابلت المعنيين بالأمر، وتطرق الأول مع الثاني إلى موضوع نتيجة المقابلة، فعلم أنها حسمت ونودي فعلا على من وقع عليهم الاختيار، ولم يكن من بينهم الشاب القريب من الشخص الذي تكلم مع الأستاذ، فاستغرب للأمر مما يعرفه من كفاءات المعني بالأمر. فكان جواب عضو اللجنة أن الشاب المعني يتوفر فعلا على ملف جيد، إلا أنه هادئ ورزين وحذر، وكلامه موزون وإجاباته محسوبة، وهذه مواصفات لخصها الأستاذ المحترم في كون الشاب يجب أن يكون (قافز)، هكذا وبهذا التعبير المحبط!! نحن نتكلم عن شاب تعرض خلال عدة سنوات من تخرجه إلى استغلال بشع لكفاءاته ووقته وحالته النفسية وعطالته من طرف عدة جهات عامة وخاصة، قدم لها  خدمات كبيرة بدريهمات قليلة مضحيا لإبراز مزاياه العلمية واالمعرفية وإدماجه في منصب يستحقه، كما تعرض لإهمال مشبوه من مصلحة عمومية مكلفة بالمالية العامة.. للإشارة، الشاب المعني كان ضمن الأوائل من المتخرجين لأول فوج في تخصصه.
ونعود لمسألة (المقابلة) والمشرفين عليها ومستواهم العلمي والمعرفي وعلاقاتهم بالمهن التي يختارون المرشحين لها وشغل منصبها، وتقديراتهم وتقييمهم لهم.
بداية لا بد من الإشارة إلى أن هذه العملية مثلها مثل أية عملية أخرى مشابهة مرتبطة بمناصب شغل سواء في القطاع العمومي أو الخاص، فلا تسلم من الزبونية والمحسوبية والوساطة والعلاقات الشخصية والعائلية إلا فيما ندر، وكل المغاربة يعرفون هذا بحكم خبرتنا وتفردنا في هذا المجال.
المقابلة عملية أو مفهوم جديد نسبيا في عالم الشغل والمناصب في المغرب، وهي اختراع غربي محض، استوردناه، وقمنا باحتضانه ورعايته وتغذيته حتى أصبح غولا يتسبب فيما يشبه العقدة النفسية المرضية للشباب الباحثين عن العمل. وهذا المفهوم المستورد أصبح صناعة حقيقية بدون أي مبالغة. فعن طريقه تناسلت نماذج بشرية متخصصة في الاستشارة وتقديم النصائح المتعلقة بالمظهر واللباس والحركات المختلفة باليد والرأس والوجه وحتى حركة العيون والشفاه. وككل صناعة التقط العاملون في الإشهار هذا المفهوم وحولوه إلى تجارة رائجة، وككل موضة أو تقليعة كما سماها العقاد رحمه الله، ظهر سماسرة في الميدان روجوا لهذه التقليعة وفصلوا ألبسة على مقاسها.
إن الشخص (القافز) بالمفهوم المغربي، هو ذلك الذي يتصيد ويبحث عن الفرص المناسبة لينقض إما على فريسة أو غنيمة. وهذا النموذج من الأشخاص هم سبب البلاء والكوارث والفساد الذي يعيشه  المغرب خلال السنوات الأخيرة، وهؤلاء هم الذين أوصلوه إلى ما سماه الراحل الحسن الثاني رحمه الله بالسكتة القلبية، وهم الذين أوقفوا عملية التقدم والتطور والنمو وبددوا ثروات المغرب وخبراته وأفقروا هذا الشعب المنكوب.
إن علوم التدبير والتسيير والإدارة كلها تحذر من الشخص (القافز)، ولكل شأن من شؤون هذا العلم قواعده وأسسه، لا تحبذ مثل هذا الشخص في دوالبه، ولأنه (ذكي!) إذا لم يجد ما يتلاعب به وكان في موقع المسؤولية، فإنه بالتالي سيتسبب في إفلاس الجهة التي يعمل لديها، لأن الشخص (القافز) سريع في اتخاذ القرارات، وثقته في نفسه (أو عدم الثقة، سيان) توقعه في براثن التهور وعدم التركيز وكما أنه لا يأخذ في حسبانه المعطيات من كافة جوانبها، ولا يخاف من عواقب أعماله وتصرفاته، وهذا بالضبط حالة كل المسؤولين الكبار الذين تسببوا في إفلاس الكثير من المؤسسات المالية والإدارية في المغرب، وبالتالي وضعوا الدولة على حافة الإنهيار المالي والاقتصادي. في المقابل سأسمح لنفسي بتقديم درس بالمجان لسدنة مفهوم المنصب، المقابلة والشخص (القافز).
عندما نتواجه مع مرشح على شاكلة الشاب الذي قال عنه الأستاذ بأنه غير (قافز)، سنجد أمامنا شخصا مهذبا، متزنا، رزينا، وحركاته بطيئة، مما يوشي بالهدوء والحذر من المنزلقات في الكلام والجواب وردود الفعل. هذه المميزات والخصائص والأوصاف مناقضة لكل المفاهيم التي يروجها تجار المناصب والناصحين في المؤسسات العاملة في شؤون الاستشارة والعلاقات العامة، وعند المقارنة سنكتشف أن تلك الأوصاف هي أفضل وأسلم مما يمكن الاعتماد عليه لشغل المناصب والمسؤوليات، لأن المرشح المتصف بها سيكون الشخص المناسب في المكان المناسب، لأنه سيعتمد عليه في أساليب عمله على دراسة وتمحيص كل تفاصيل المهام المكلف بها، متوخيا سلامة عمله وتحصين قراراته وحساب العواقب والمنزلقات وتقدير النتائج، وبالتالي امتلاك كل شروط النجاح، كذلك فإن مثل هذا الشخص وبهذه المنهجية في التفكير والإخلاص سيكون مكسبا للجهة التي يعمل لديها وحارسا أمينا على مصالحها.
هكذا يتضح البون الشاسع بين المرشح (القافز) ونقيضه (الساكن)، وبالتالي فلتذهب كل المفاهيم الحديثة حول (المقابلة) إلى الجحيم، وننصح المتاجرين بها بتقدير عواقب (علومهم العصرية)، والمشبوه منها بالخصوص.
طنجة في 2004/4/10


Comentarios