الرميد يقرر أحكاما ولا يلقي مواعظَ



             
  
الأستاذ إبراهيم الكرناوي
مستشار وزير العدل والحريات

يمكن للمرء حينما يعتلي منبر الوعظ والإرشاد أن يتوسع في التحذير
من الحرام، والتنبيه إلى سد الذرائع الموصلة إليه، والسبل المفضية إليه، ورسم حدود الحمى فيه التي إن واقعها المرء أوشك أن يقع في الحرام.
فيَجمُل بناء على ذلك، في باب التحذير من الزنا، الحث على غض البصر عن مفاتن النساء، والنهي عن الخضوع بالقول كي لا يطمع الذي في قلبه مرض، وعن الخلوة وما يلابسها من مقدمات الزنا التي تشعل نار الافتتان وتؤجج أوارها فيغدو المرء كلما رُدَّ إليها أُركس فيها.
أما إذا كان محل الكلام مرتبطا ببيان حكم من الأحكام، والتدقيق في ما قرره الشرع من جزاء على ارتكاب إثم من الآثام، فالواجب يقتضي انتقاء العبارة التي تؤدي المعنى بأوضح سبيل، وتقديم الدليل الذي يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوبه، دون استطراد لا موجب له.
لذلك ترى الفقهاء ورجال القانون في كل عصر وحين يدققون في بيان حدود الألفاظ ومدلولاتها بتعاريف جامعة لما تنطبق عليه، مانعة من أن يتسرب إليها ما ليس منها.
كما تجدهم حريصين كل الحرص على توضيح أركان كل جريمة يتعاطون دراستها، مع بيان شروط قيامها لئلا يلتبس الأمر على من لا يملك حس التمييز فيخلط بين الأمور وينسب للناس اقتراف جرائم لا تعد في الأصل كذلك.
فمنهج رجل القانون يختلف عن منهج الواعظ أو فيلسوف الاخلاق، ولذلك تجد بونا شاسعا بين المنهج المتبع عند الفقهاء الذين كتبوا في فقه الحدود أو الجرائم بصفة عامة، وهم خلق كثير، وبين المنهج الذي اقتفاه مؤلفو كتب الرقائق والمواعظ كابن قيم الجوزية في حادي الأرواح إلى بلاد الافراح وابن عطاء الله السكندري في حِكَمه والغزالي في إحيائه و غيرهم أيضا كثير.
فالحاصل أن كل مقام يقتضي مقالا يوافقه، ولما كان المقام هو بيان موقف المشرع الجنائي من جريمة الفساد فقد كان لزاما أن يتم بيان هذا الموقف بتجرد، وهو أن هذه الجنحة لا تقوم إلا بوجود علاقة جنسية في شكل اتصال جنسي بمعناه الحسي وليس مجرد وجود جسدين بقرب بعضهما بعضا؛ وتبعا لذلك فوجود رجل وامرأة لا تجمع بينهما علاقة زوجية في سرير واحد لا يعد في مفهوم الفصل 490 من القانون الجنائي جريمة فساد.
ولو قلنا إن هذا الامر جريمة أخلاقية لصح قولنا، ولو قلنا إنه مجلبة للعار والشنار لما أنكر ذلك علينا أحد، ولكن هل هو فساد في مفهوم القانون الجنائي؟ الجواب : قطعا لا.
ورب قائل يقول: ولكن وجودهما جنبا إلى جنب قرينة على الفساد، وهنا لا بد من الإشارة إلى ما يثبت به الفساد في القانون الجنائي.
فثبوت جنحة الفساد أو الخيانة الزوجية حسب الأحوال، لا يكون إلا بوسيلة من هذه الوسائل الثلاث الواردة في الفصل 493 من القانون الجنائي:
-محضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة تلبس؛
-اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم؛
- اعتراف قضائي.
ويتضح بجلاء أن المشرع الجنائي قد أورد هذه الوسائل على سبيل الحصر، ولم يسمح للقضاء باللجوء إلى القرائن واستنباط الأمارات لما تتسم به هذه الجريمة من حساسية، ولما ينبني عليها من أحكام راعتها الشريعة الإسلامية نفسها حينما تشددت في قبول ما يتم به إثبات جريمة الزنا من اشتراط أربعة شهود، وتحديد ما يتعين أن تنصب عليه شهادتهم، وإيجاب العقوبة على من ثبت كذبه ولو بتخلف شهادة شاهد واحد من مجموع الشهداء، بحيث لا يقبل للعقاب عليها شهادة الواحد أو الاثنين أو الثلاثة بل يلزم أربعة شهداء دون اضطراب في شهادتهم أو اختلاف فيها.
فلا أحد من متقدمي الفقهاء ولا متأخريهم قال إن  جريمة الزنا تثبت بلمس أو تقبيل أو عناق، بل لا بد فيها من اتصال جنسي بين رجل وامرأة لا يجمع بينهما زواج بايلاج متعمد وبلا شبهة.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أو يُكَذِّبُهُ" متفق عليه.
فالحديث يشير إلى زنا الجوارح، ولا أحد من الفقهاء أدخل ذلك في مفهوم الزنا الذي يقتضي إقامة الحد الشرعي لعلمهم أن الاطلاق هنا مجازي غير حقيقي .
فإذا كانت خلوة الر جل بامرأة ليس لها بمَحرم أمراً مستقبَحا لأنها مظنة الفتنة، أو كان بين رجل وامرأة ما هو حرام،  فالحرام درجات ولكن الحرمة الموجبة للحد الشرعي هي الوطء الحرام ، أما ما دون ذلك فلا يستوجب سوى التعزير  إن كان في الامر ما يقتضي ذلك.
 وما على من بقي في نفسه شيء من شك أو ارتياب سوى أن يرجع إلى  كتب الفقه، قديمها وحديثها، ليقف على درجة تشدد الفقه في إثبات جريمة الزنا،         و سيتبين له عند ذاك أن الشرع عرف هذه الجريمة تعريفا دقيقا، وجعلها مشروطة بعدة شروط ولم يتوان عن درء الحد فيها بالشبهة، خلافا لمن يريد إلصاق هذه التهمة بمن وُجدا على سرير واحد دون تمييز منه بين الأفعال في بعدها الأخلاقي وبعدها القانوني.  ذلك أن الفعل قد يكون غير مقبول أخلاقيا ولكنه لا يرقى مع ذلك ليكون جريمة بالمعنى المنصوص عليه جنائيا.
إن القانون الجنائي وإن اختلف مع الشريعة في وسائل إثبات هذه الجريمة وفي العقوبة المقررة لها، فإنه أخذ بروح الشريعة وتشدد في إثباتها، و هكذا فإنه يشترط كما تم بيانه آنفا، وقوع علاقة جنسية لا لبس فيها، يعاينها ضابط الشرطة المزاول لمهامه أو باعتراف قضائي أو اعتراف مضمن في مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم؛  ولذلك فإنه في إطار ما هو مقرر قانونا لا يجوز الحكم بثبوت الفساد أو الخيانة الزوجية إلا إذا قامت هذه الجريمة بكل عناصرها التكوينية وثبتت بوسائل الاثبات المقررة قانونا. 
إننا نستنكر ونستشنع وجود رجل وامرأة غير متزوجين من بعضهما في سرير واحد ، وهو فعل يعتبر فسادا بالمفهوم الأخلاقي، لكننا نؤكد في المقابل أن هذا الوجود ليس فسادا بمفهوم القانون الجنائي ولا زنا بمفهوم الشرع الحنيف، ومن  يريد أن يجعل من هذا الوجود مظنة الزنا فقد فاته أن الظن موجب لدرء الحدود لا لثبوتها، وصدق الله تعالى إذ يقول: " وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ  إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ  وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ".
إن وزارة العدل والحريات لما فتحت حوارا واسعا حول مسودة مشروع القانون الجنائي، كانت تعلم أنها تتضمن مَوَادَّ في غاية الحساسية، تختلف حولها الآراء وتتباين بشأنها وجهات النظر، وقد استهدفت أن تستفيد من كل ذلك في كيفية تدقيقها وإحكام صياغتها؛ ولا شك أن هذا الهدف قد تحقق إلى حد كبير، و هي ما تزال جادة في تحقيقه من خلال المساهمات الجيدة والمفيدة التي استمعت إليها مباشرة أو تلقتها كتابة، والتي ستسهم في صياغة مشروع قانون جنائي يعبر عن رأي الأغلبية الوازنة في مؤسسات المجتمع والدولة، ويستجيب لروح الدستور ومنطوقه ويكرس الهوية الراسخة لهذا الوطن.
    

Comentarios