كتاب مدرسي جزائري من الماضي المقرر يفضح تناقضات العسكر في الحاضر المزور Oualid KEBIR




في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لم يكن التلميذ الجزائري محتاجا إلى وثائق خارجية أو أرشيف أجنبي ليعرف حقيقة تاريخه ومحيطه. كان يكفيه أن يفتح كتابه المدرسي الرسمي “تاريخ المغرب العربي الحديث“، الصادر عن المعهد التربوي الوطني بإشراف وزارة التربية الوطنية الجزائرية، ليجد أمامه الحقائق الدامغة: الجزائر إيالة عثمانية لثلاثة قرون، المغرب إمبراطورية امتدت إلى السودان، الأسرة العلوية من آل البيت النبوي الشريف، أهل تلمسان بايعوا سلطان المغرب، الأمير عبد القادر أعلن الجهاد ضد بفرنسا بإسم سلطان المغرب وبايعه، ولجأ إلى القطر الشقيق فنصره، والريف مغربي قاده محمد بن عبد الكريم الخطابي في حرب تحرير وطنية.

  

هذا الكتاب لم يكن وجهة نظر مؤرخ مستقل، بل مقرر رسمي دُرس لأجيال من الجزائريين. المفارقة أن المنظومة الحاكمة نفسها التي وضعت هذه الحقائق بين أيدي التلاميذ، صارت اليوم تكذبها، بل وتعاقب كل من يجرؤ على تذكير الناس بها، مثل الكاتب بوعلام صنصال الذي زُج به في السجن لأنه ردد ما في هذه الصفحات. وعلى نقيض ما كان يُدرس للجزائريين، يُقدم أشخاص مثل محمد دومير، التقني البيطري الذي تحول فجأة إلى “مؤرخ” في خدمة العسكر، ليكتب مؤلفات تنكر أن الجزائر كانت تحت الحكم العثماني، في تناقض صارخ مع ما خطته وزارة التربية الجزائرية بيدها قبل عقود قليلة.

ولعل المفارقة الأكبر أن جيل السبعينيات والثمانينيات تربى على هذه الحقائق من كتاب رسمي، بينما يُحرم الجيل الحالي من الاطلاع عليها، بل ويُجرم من يذكر بها. فكيف تحولت دروس الأمس إلى تهمة يعاقَب عليها اليوم؟ أي تاريخ هذا الذي يُبدَل حسب مزاج العسكر؟.

بعمق وتفصيل، وانطلاقا من الكتاب المدرسي نفسه بوصفه وثيقة رسمية صادرة عن المعهد التربوي الوطني بالجزائروداخل برنامج وزارة التربية، اخترت بعض الصفحات الشاهدة على سكيزوفرينيا العسكر لكشف وهدم آلة التزوير والدعايةالمغرضة.

الصفحة 21 — الحكم العثماني (1518–1830)

دامَ الحكمُ التُّركي بالجزائرِ أكثرَ من ثلاثةِ قرونٍ (1518–1830).”

الدلالةهذا سطر تأسيسي في المنهاج الجزائريالجزائر إيالة عثمانية أكثر من ثلاثة قرونأي إن الكيان السيادي الذي يزعمالنظام اليوم قِدمه ما قبل الاستعمار الفرنسي غير موجود في مقرراته القديمة.

الواقع الراهنهنا تحديدا يقع تزوير محمد دومير؛ ينشر كتاباً ينكر العثمانية بدعوى “استقلالية” موهومة، مع أن كتبالمدرسة الجزائرية فسرت تاريخ البلاد من داخل بنية الإيالة والباب العاليكيف تُكافَأ هذه الرواية المستجلبة ويُعاقَب كاتبمثل بوعلام صنصال لمجرد إعادة تذكير الناس بما كان يَدرُسونه؟

الصفحة 218 — امتداد الدولة السعدية إلى السودان الغربي

تمكن المنصورُ في نهايةِ القَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ م، مِنْ تَوسيعِ رُقْعَةِ الدولة السعدية وذلك بِمَد نُفُوذِها إلى السودانِ.”

الدلالةالمغرب في عهد السعديين، وبقيادة السلطان المنصور الذهبي، مد حكمه عبر الصحراء إلى السودان الغربي (مالياليوم). هذا تعريف صريح للمجال الصحراوي باعتباره امتدادا مغربيا منظماطرق قوافل، مراكز عبور، ونفوذ سياسياقتصادي.

الواقع الراهنعندما ينزعج الخطاب الرسمي للنظام الجزائري اليوم من مقولة “الصحراء الشرقية” كجزء لا يتجزا عنالمغرب، فهو يناقض نصا تعليميا جزائريا لا يتجاوز الأربعين عاما يحدد بل ويقر بشبكة النفوذ المغربي جنوباالوثيقة هناتُغلق الباب أمام السرديات التي تُشيطن المغرب وتتحدث عن ما تسميه بـالأطماع التوسعية” كلما ذُكرت الصحراءالشرقية.

الصفحة 223 — نشأة الأشراف العلويين ونسبهم

قَدِمَ أجدادُ الأُسْرَةِ العَلَوِية منَ الحِجَازِ إلى المَغْرِبِ في القَرْنِ السابعِ الهِجْرِي… وهُمْ يَشْتَرِكونَ مع السعدِيينَ في نَسَبوَاحِد يعودُ إلى الإمَامِ علي ابنِ أبي طَالِب.”

الدلالةالمقرر يؤكد بما ليس فيه لبس وبوضوح النسب النبوي الشريف للعلويين، وأن جذورهم من الحجاز، واستقرارهمكان في تافيلالت قبل تأسيس دولتهم.

الواقع الراهنالطعن الذي تروجه بعض الأبواق وفي مقدمتهم البيطري في هذا النسب يتناقض مع المنهجية المدرسيةالجزائرية ولا يستند إلى مصادر منهجية محترمة، وان ما تقوم به تلك الابواق مجرد دعاية ظرفيةفكيف تُنكر السلطة اليومما وضعته بيدها في الكتب قبل عقود؟

الصفحة 227 — تلمسان بين العثمانيين والمغرب

كَانَتْ قَضِية تلمسانَ مثارَ نِزاعٍ مُسْتَمِر بين مُمَثلي الحكومَةِ العُثْمَانِية في الجزائرِ وَبَيْنَ حُكام المَغْرِبِ… وبَعْدَ أول صِدَامٍ… تَدَخل السُّلطانُ العُثماني لإنهاءِ الخِلَافِ… وَرُسِمَتْ حُدُودٌ وَاضِحَةٌ لِلبَلَدَيْنِ.”

الدلالةالملف عثمانيمغربي لا “جزائريمغربي“.

الجزائر لم تكن طرفا سياديا؛ بل كانت ولاية تُمثلها سلطة الباب العاليحتى رسم الحدود تم بتوافق بين السلطان العثمانيوسلطان المغرب.

الواقع الراهنتحويل تلمسان اليوم إلى شعار قومي ضد المغرب يصطدم بواقع المقررالنزاع كان بين دولتين سياديتين — المغرب والدولة العثمانية — فيما “الجزائر” بصيغتها الراهنة لم تكن قائمة كدولة.

الصفحة 232 — استنجاد تلمسان وإعلان التبعية

استنجادُ سُكانِ تلمسانَ بالسلطانِ عبدِ الرحمنِ وإعلانُهُم التبعيةَ، أملا في إبعادِ الخطرِ الفرنسي

الدلالةهذا ولاء سياسي صريح؛ ليس تحالفَ ضرورةٍ عابر، بل إعلان البيعة لسلطان المغرب من داخل تلمسان اتقاءللاستعمار الفرنسي.

الواقع الراهنحين يُصِر خطاب النظام على ان أي حديث عن الصلة التاريخية بين تلمسان والمغرب بأنه “أطماع، فهويخاصم نصا تربويا جزائريا يقول إن التبعية أُعلنت من أهل تلمسان أنفسهم طلبا للحماية، فلماذا ينزعج العسكر اليوم منهذه الحقيقة؟

الصفحة 73 — تبعية الأمير عبد القادر للسلطان

«ولأسبابٍ سياسية أعلنَ تَبَعِيته لِسُلطانِ المغربِ في البدايةِ أملا في الحصولِ على مُسَاعَدَتِهِ وحِمَايَتِهِ الخَلْفِية

الدلالةالأمير عبد القادر بايع السلطان مولاي عبد الرحمن واعلن الجهاد باسمه ضد فرنسا، وطلب المدد والعمق الخلفيهذا يُعرف العلاقة بأنها إسناد استراتيجي لا مجاملة عابرة.

الواقع الراهنخطاب الشيطنة المتبادل الذي تصنعه السلطة الجزائرية اليوم للمغرب، ينهار أمام شهادة مقرر جزائريدرس للأجيال أن الأمير أشهر تبعيته السياسية للسلطان طلبا للحماية.

الصفحة 233 — لجوء الأمير عبد القادر ونصرة المغرب له

«التجاءُ الأميرِ عبدِ القادرِ إلى المغربِ ونُصْرَةُ القُطْرِ الشقيقِ لَهُ

الدلالةاستعمال عبارة “القطر الشقيق” يعبر عن تصور المدرسة الجزائرية للعلاقةأخوة، وملاذ، ونصرة عملية وهو حمايةاختُبرت على الأرض.

الواقع الراهنحين يَجري تجريم هذا المعنى، فذلك لأن السلطة لا تريد ذاكرة مشتركة؛ تريد سردية صدامٍ دائم حتى لوكذبت مادتها التعليمية السابقة.

الصفحة 249 — الحرب التحريرية في الريف المغربي

الحَرْبِ التحريرية في الريفِ المَغْرِبي… عام 1921 بقيادة (محمد بن عبد الكريم الخطابي)… ومُنْطَلِقَةً من أُسُسٍ وطنيةٍوقوميةٍ… ونَجِدُ تشابها كبيرا بينها وبين مُقاومة الأمير عبد القادر الجزائري.”

الدلالةالمقرر يسميها صراحة “الحرب التحريرية في الريف المغربي، ويحدد طبيعتهاوطنية قومية ضد استعمار أجنبي(إسبانيا). كما يقيم جسرا مفاهيميا بينها وبين مقاومة عبد القادر.

الواقع الراهندعم السلطة اليوم حركة انفصالية ميكروبية في الريف يناقض نصها التعليمي الذي كان يُدرس للجزائريينالريف جزء من المغرب ومقاومته صفحة من تاريخه الوطنيتمويل الانشقاق هنا ليس “تضامناً” بل هندسة خصومة معجارٍ تُقر كتب الدراسة الجزائرية بأنه سند تاريخي لبلادنا.

ما الذي تقوله هذه الوثائق عن الحاضر؟

إنكار الحكم العثماني على الجزائر كما يفعل محمد دومير لا أصل له في مقررات الجزائر الدراسية نفسها.

الطعن في النسب العلوي الشريف يتهاوى أمام سطورٍ جزائرية تُدرسه كحقيقة.

تصوير المغرب كعدو “وجودي” يتناقض مع وقائع تبعية عبد القادر، وبيعة تلمسان، ونُصرة المغرب للقطر الشقيق.

معركة الرواية الحالية لا تُدار من أجل الحقيقة، بل لتأبيد سياسية عدائية للعسكر؛ ولذا يُعاقَب من يُذكر بالمقرراتالمدرسية (صنصالويُكافأ المزور (دومير).

المدرسة شهدت… والعسكر زور

هذه القراءة ليست “وجهة نظر، بل إعادة تقديم لنصوص كتاب مدرسي جزائري استعملته أجيال السبعينياتوالثمانينياتكل سطرٍ فيه يَشهد أن ما يُقال اليوم في القنوات وعلى ألسنة الأبواق ليس تاريخا، بل انقلاب على الذاكرةالمكتوبة بيد الدولة نفسها.

فهل تُصبح كتب السبعينيات والثمانينيات أيضا هدفا للمقصلة، أم أن الحقيقة أقوى من أن تُمحى مهما حاول العسكر؟

إنها ليست معركة سرديات عابرة، بل هي معركة هوية وذاكرة أمة، بين الحقيقة التي لا تموت والكذب الذي لا يعمر طويلا.


Source : Oualid KEBIR 

Comentarios