الكلمة الافتتاحية للسيد منير بنصالح الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان بمناسبة تنظيم مائدة مستديرة حول موضوع "التاريخ وقيم المواطنة" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – المحمدية الخميس 25 أبريل 2024

 

مقدمة

أود في مستهل هذه الكلمة أن أتقدم للمنظمين، باسمي وباسم المجلس الوطني لحقوق الانسان، بالشكر الجزيل ليس فقط لدعوتنا للمساهمة في هذا اللقاء الفكري الهام، ولكن أيضا لاختيار موضوع له من الراهنية والدقة والأهمية جزء غير يسير.

 

كما لا يسعني أن أبدي سعادتي، وكما حالنا في المجلس الوطني، رئيسة وأمينا عاما وأعضاء ومسؤولين وأطرا، بتواجدي بفضاء الجامعة في هذه الكلية العريقة. وسأكرر ما نقوله دوما في مثل هذه الفضاءات: نحن مؤمنون أن المعرفة هي محرك أساسي للنهوض بحقوق الانسان، ومما لا شك فيه أن الجامعة هي فضاء المعرفة بامتياز. وأعاهدكم صدقا أنني سأكرر ما قلته غدا في لقاء علمي بجامعة ابن زهر كما سنكرره دوما اقتناعا.

 

في كلمتي، والتي سأحاول أن أكون مقتضبا بإعطاء بعض رؤوس الأقلام، سأستعرض اهتمام المجلس الوطني الحقوق الانسان بمواضيع الذاكرة والتاريخ، ثم أقدم مساهمتها في بناء المواطنة والنهوض بحقوق الانسان.

 

اهتمام المجلس الوطني لحقوق الانسان بالذاكرة والتاريخ من خلال توصيات هيئة الانصاف والمصالحة

كما تعلمون، يشتغل المجلس، بصفته الجهة التي أوكل إليها جلالة الملك متابعة تنفيذ توصيات هيئة الانصاف والمصالحة، بتعميق النقاش بخصوص السياقات التاريخية لمسار الانتهاكات الجسيمة بالمغرب. ويأتي هذا الانشغال بالنظر إلى كون هيئة الانصاف والمصالحة لم تقف كثيرا عند إشكالات السياق التاريخي لأسباب أجملتها في:

- إشكال معنى السياق التاريخي؛

- إشكال النقص في المعطيات حول الأحداث المرتبطة بالانتهاكات؛

- إشكال تضارب الأطروحات التي تقدم تفسيرات وسياقات لهذه الأحداث.

 

وبناء على هاته الإشكالات السالفة، فإن الهيأة وهي تنكب على تحليل السياق التاريخي اعتبرت أن ما توفر لديها من أرشيفات ومعطيات هي في النهاية معلومات غير مكتملة أو مجتزأة من سياقها أو متضاربة أحيانا. ومن منطلق وعي هيئة الإنصاف والمصالحة بأن إنتاج المعطيات عملية دائمة التطور، خاضعة هي الأخرى لسياقاتها التاريخية والسياسية المتقلبة وللاعتبارات الذاتية لمنتجيها، لهذه الاعتبارات وغيرها اعتبرت الهيئة أن البحث في السياق التاريخي والتمحيص في تضارب الأطروحات المتعددة مهمة تعود للمؤرخين والباحثين المتخصصين. وبالتالي أوصت الهيئة بإحداث "وحدة لحفظ الذاكرة والنهوض بالتاريخ المغربي بمختلف روافده". وهي الوحدة التي أنشأها المجلس خلال الولاية الحالية.

 

طبعا، إن انشغال المجلس وفق ولايته الشاملة لا يعني أن المجلس سيتحول إلى مؤسسة بحثية جامعية بقدر ما يتطلع عبر الوحدة المنشأة في مجال حفظ الذاكرة والنهوض بالتاريخ إلى تعزيز الشراكات مع الجامعات ومختبرات البحث الجامعي من أجل الدفع في اتجاه تسليط الضوء والبحث عن بعض العتمات المرتبطة بالتاريخ الراهن وبالسياقات التاريخية لما جرى من انتهاكات في الماضي، سواء من طرف الدولة أو من طرف المجموعات غير الدولتية التي كانت تتسارع بشأن مضمون الاستقلال.

 

الذاكرة والتاريخ في عمل المؤسسات الوطنية لحقوق الانسان. إذا كان الانشغال الأول للمجلس محكوم بتنفيذ توصية العدالة الانتقالية بالمغرب، فإن الانشغال الثاني لا يقل أهمية باعتباره يرتبط بحماية الحقوق والحريات وضمان السلم المجتمعي وتحقيق العدالة المجالية كمدخل مركزي للتنمية الإنسانية وحماية الحقوق الفردية والجماعية.

 

ذلك أن المجلس ووفقا لولايته الشاملة، ومن منطلق مسؤوليته في الاستباق من أجل النهوض بالحقوق والحريات، وخلال اشتغاله في بداية هذه الولاية على استراتيجية فعلية الحقوق كأفق متجدد لتمكين المواطنات والمواطنين من حقوقهم الفعلية، لاحظ المجلس (بعد سلسلة من الندوات والنقاشات المرتبطة بموضوع العدالة المجالية) أن التفاوت المجالي والترابي في المغرب والذي كان من ضمن نتائج السياقات التاريخية لتدبير الشأن العام بالمغرب، فضلا عن كونه مخلفا من مخلفات الاستعمار، (لاحظ) أن هذا التفاوت المجالي وبالنظر إلى خصوصياته المجالية المرتبطة بالتعدد اللغوي بالمغرب قد تحول وبشكل تدريجي إلى ملاذات آمنة لبعض النزوعات المرتبطة بالهويات الصغرى المغلقة، والتي عادة ما تتغذى على وقائع وسياقات مجتزأة تنحو غالبا نحو الأسطرة والأحكام الإطلاقية قبل أن تتحول إلى ذاكرة جماعية لبعض المجموعات التي لا تجد مكانتها ضمن النسق الوطني بفعل التفاوت المجالي والإقصاء المستمر.

إن تضخم وتضخيم الوقائع والأحداث بات يشكل ذاكرة جماعية مشوهة وملاذا وهميا للبعض يتم استحضاره واللجوء إليه في أي لحظة انكسار اجتماعي.

 

لهذه الاعتبارات ومن أجل تعزيز حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، وفي سياق مواجهة إشكالات التفاوت المجالي والترابي وتحصين أسباب ودواعي التماسك الاجتماعي، أصبح موضوع التاريخ الراهن وإعادة ترميم الذاكرة الجماعية من بين الضمانات الأساسية في اعتقاد المجلس لإعادة ترتيب الأوراق وضمان تنمية إنسانية عادلة ومندمجة. من هذا المنطلق إذن، فإن المجلس يعتبر الاهتمام بالتاريخ الراهن والحرص على ترميم الذاكرة الجماعية العادلة والمنصفة مدخلا وضمانة أساسية لحماية الحريات وتعزيز التماسك الاجتماعي.

 

الذاكرة والتاريخ، كآليتين لإنتاج قيم المواطنة من خلال تقييم السياسات العمومية:

 يتجلى المجال الثالث للاشتغال بالنسبة للمجلس، كمؤسسة وطنية لحقوق الانسان ذات ولاية شاملة، ضمن إحدى المهام الجديدة المنوطة بها وهي تقييم السياسات العمومية من زاوية الحقوق والحريات.

 

ولا يخفى عليكم أن تقييم السياسات العمومية في ضوء حقوق الإنسان يقتضي هندسة وبناء هذه السياسات العمومية على قاعدة الحقوق والحريات المرتبطة بكل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، كما لا يخفى عليكم اليوم أنه وفي ظل التحولات الدولية الجارفة أصبحت بعض الحقوق، مثل الحق في التعليم والحق في الصحة، تتجاوز التنميط التقليدي الذي كان يصنفها في سياق قطاعات اجتماعية، وتحولت بشكل تدريجي، خاصة في أعقاب جائحة كوفيد وما تلاها من حروب تجتاح العالم وتعمق الصراعات بشأن الموارد الأساسية، حيث أصبحت هذه الحقوق استثمارات سيادية خالصة تهم مصير ومستقبل الأوطان والأجيال. ويذكر المجلس الوطني لحقوق الإنسان بتأكيد تقريره على اهتمامه بتعزيز وحماية جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، بما في ذلك الحق في التنمية، مستحضرا التزام المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، وتشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا.

 

ويستحضر المجلس الوطني في ذات السياق، بعض المرجعيات الدولية الأساسية، ومنها قرار الجمعية العامة للأم المتحدة يوم 18 دجنبر 2013، الذي ينص في بنده العاشر على حث وتشجيع الدول على وضع سياسة وطنية للمحفوظات تضمن حفظ وحماية جميع المحفوظات المتصلة بحقوق الإنسان، وسن قانون ينص على صون التراث الوثائقي للأمة وحفظه، ويضع إطارا لسجالات الدولة، بما ينسجم مع الجهود التي يبذلها مجلس حقوق الإنسان ومفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، وكذا المنظمات الإقليمية، بخصوص المعايير القائمة في مجال الوصول إلى المعلومات وحماية السجلات وحفظها وإدارة المحفوظات.

ويستحضر المجلس الوطني كذلك، انسجاما مع تشبته بالقيم الحقوقية المؤسسة، ما تضمنه الدستور المغربي من تنصيص بارز على ثراء الهوية المغربية في تعددها اللغوي وتنوع مكوناتها، وتأكيد على الوحدة الوطنية متعددة الروافد كإحدى الثوابت الجامعة للأمة المغربية. ويؤكد المجلس الوطني على أهمية ما استخلصه من دروس واستنتاجات، من خلال الزيارات الميدانية التي قام بها لعدد من مراكز حفظ الذاكرة، والتداول مع عدد من الفعاليات المشتغلة على القضايا الثقافية والاجتماعية والبيئية.


Comentarios