"المــشـي على الـغَــيْــسِ" تدوينة للأستاذ عثمان بن شقرون




     بعض الأساتذة لا يكفون عن إعطاء دروس جليلة لتلامذتهم حتى ولو صاروا أساتذة مثلهم.. هذا بالضبط ما حصل لي منذ أكثر من خمس وعشرين سنة مضت لما التقيت بأستاذي الذي درسني اللغة العربية في السنة النهائية من الإعدادي. كانت المناسبة حضور لقاء تربوي دعا إليه مفتش اللغة العربية. وكان مكان اللقاء هو إعدادية ابن الأبار، نفس الإعدادية التي تتلمذت فيها على أساتذة تركوا بصمة في شخصيتي.. ومن أهمهم أستاذ اللغة العربية الذي لم يكن سوى الفنان التشكيلي العالمي خليل غريب..

   ومن غريب الصدف أني تقاسمت الجلوس في هذا اللقاء مع أستاذي خليل غريب على نفس الطاولة.. هذا الإنسان الذي توطدت علاقة صداقتنا بعد الدراسة، واستمرت إلى هذا الحين..

    انطلق اللقاء الروتيني بقراءة المفتش لصُرَّة من المذكرات، كما هو الحال في درس القراءة، قبل أن يعرج على الموضوع الرئيسي للقاء. بدا الجميع مهتما بمتابعة المفتش يقاطعه من حين لآخر بضعة أساتذة إما مستفسرين عن شيء أو معلقين عليه أو منتقدين إياه. فيما كان أستاذي خليل غريب جالسا كتمثال ينظر أمامه إلى الفراغ في تركيز كأنه في حصة من تمارين اليوغا. مكث هكذا طيلة اللقاء لا يحرك ساكنا حتى نهايته، وكأن الرجل كان غائبا. 

    ونحن نهم بمغادرة الإعدادية توقفت مع أستاذي خليل غريب في الساحة نتجاذب أطراف الحديث في أمور غير التدريس.. أوقفته وقلت له: ما رأيك في كل هذا الذي سبق؟..
قال لي: لم أكن أستمع.. وأردف قائلا: من يريد أن يخدم الوطن عليه أن يحمل الطباشير ويقف أمام السبورة.. أما قراءة المنشورات فلا تجدي نفعا.. كلنا نعرف القراءة والكتابة..
ونحن ننزل منحدر الساحة المؤدي إلى باب الإعدادية تجرأت عليه وقلت كم فضل لك يا أستاذ للتقاعد؟
أجابني: لم يفضل لي سوى سنتين من الخدمة..
قلت له: أغبطك، لا شك أن إحساسك بالزمن في هاتين السنتين سيكون مريحا..
قال لي: بالعكس، التدريس في السنوات الأخيرة كمن يمشي في الغيس؟
قلت له: كيف ذلك؟
قال: حين تمشي في الغيس فإنك تحمل بقدمك في الخطوة الأولى نصف كيلو من الغيس وفي الخطوة الثانية كيلو من الغيس، وهكذا تتثاقل الخطوات كلما طال المشي في هذا الغيس.

تعليق الصحافي المختار الغربي:

الأستاذ والفنان خليل الغريب صديق الطفولة. من ألطف خلق الله. حياته وتصرفاته كلها حكم وبلاغة ودروس. لكن أهم ما يميز شخصيته هو العفة والقناعة والبساطة والتواضع والبعد عن الشبهات. لهذا لا يتذكره إلا القليلون ولا يلتفتون لتكريمه إلا حينما يحتاجون إلى إبداعاته. شكرا أخي عثمان على هذه الالتفاتة التي أعتبرها تكريما للصديق خليل الغريب وتذكيرا لنا به في خضم جنوننا وجحودنا.

خليل الغريب كفنان لامع ومتمكن، كان من الممكن أن يكون ثريا، بل غارقا في الثروة عن طريق فنه وإبداعاته المعروفة والمشهود لها وطنيا ودوليا، لكنه كان يرفض بيع لوحاته أو الاتجار بها. كان قنوعا براتبه أثناء العمل وبعد التقاعد.
تعليقات أخري:
Me gusta
Me encanta
1) فنان ومبدع له نظرته الفلسفية الخاصة إزاء التعليم...وأمام المتعلم. الغيس على حد تعبيره هو تعليمنا الذي أضحى فيه المعلم يحمل ثقل مشاكله وثقل فشل منظومته


2) نعم ، خليل غريب فنان ومثقف بالمعنى الراقي للكلمة، زاهد ناسك لا يبيع لوحاته ولا يسعى إلى مال أو جاه أو سلطة.. شخص يطول الكلام عن صفاته الإنسانية الراقية ورؤيته للحياة والناس والعالم.


3) إعجابي بالأستاذ الفنان خليل غريب لا حدود له ..يكفي أن أول قصيدة لحنتها قصيدة درسها لنا في حصة المحفوظات ..وهي "فراق" للشاعر إيليا أبي ماضي ...طريقة تلقينها لنا أوحت لي بتلحينها وعندما قدمتها بإذاعة طنجة خمس سنوات بعد ذلك ببرنامج فاطمة عيسى زرته بإعداية إبن الأبار وسلمته التسجيل ..كما أحببنا الفن التشكيلي من خلال الرسومات التي يخطها على السبورة كوسائل توضيح ..فعشقنا الفنون جميعها معه ...والتقيت به بالقطار قبل سنوات عندما كان عائدا من جنازة إدمون عمران المليح ...فتحدثنا طويلا ...إنه خليل غريب وكفى.

نعم يستحييييييل أن نوفيه حقه في بضع كلمات.



4) خليل الغريب وكفى ...هل نتحدث عن خليل الغريب الإنسان في أبعد حدود النبل والصفاء أم الأستاذ والمربي الناجح رغم كل المثبطات أم الفنان التشكيلي الذي له نظرة مغايرة لهذا الفن يمارسه بمبدأ أن اللوحة تنقرض مثل سائر الكائنات الحية لذلك يرسمها بالصباغة المائية هكذا فسر لي عدم بيعه للوحاته أم الفيلسوف أم الخطاط أم الناقد الفني أم أم.....رجل يلزمنا التفكير في جمع شهادات في حقه في مصنف خاص نقدمه في حفل تكريم يليق بمساره وإن كنت أعرف أنه سيرفض.



5) التقيت الأستاذ خليل الغريب سنة او سنتين بعد تقاعده..وجدت إنسانا أخرا..إنسانا مبتسما..متفاءلا..مقبلا على الحياة خصوصا وانه أصبح يتنقل من ملتقى ثقافيا لأخر..لا يكف عن الحركة والنشاط...أدركت حينها انه فعلا لم يعد يمشي في الغيس..والغيس يقصد به جحيم القسم وجسارة أشباه التلاميذ..كان الرجل الخلوق يعاني في صمت من هؤلاء.. ذكره الله بخير..



Comentarios