عن سن 104 سنة: وفاة اسبانية كانت سكرتيرة في ديوان الراحل الحسن الثاني إعداد: المختـــار الغربـــي



توفيت يوم الاثنين الماضي 22 غشت 2017 بالرباط، عن سن 104 سنة، الاسبانية "باكيطا كورونيو" أمضت منها 74 سنة في المغرب، حيث كانت تقيم بمدينة الرباط، وتتمنى الموت بها. وكانت الحرب الأهلية الاسبانية (1936-1939) سبب هجرتها ولجوئها الى المغرب، بالضبط الى الرباط العاصمة، حيث كانت تنتمي الى التيار الجمهوري وتعادي الفاشيشتية ونظام فرانكو.

"باكيطا كورونيو"، من مواليد مدينة مدريد، وصلت الى أن تكون سكرتيرة في ديوان الأمير مولاي الحسن (الحسن الثاني فيما بعد). بعد ميلادها، قبل مائة سنة، مرت عليها كفيلم، حياة معقدة، طويلة وممتعة في بعض مراحلها. لم تخطط لها، بل جاءتها أحداثها متتالية وغير مرتبة، لأنها، وفي الأحوال الطبيعية، ازدادت وسط عائلة مثقفة ومنظمة، كان من المفروض أن تكون حياتها مريحة وسهلة، لكن، لم يحصل ذلك.
كانت تحوز على شهرة لا بأس بها في مدينة الرباط، حيث عاشت  وحيث كانت ترغب في أن تموت فيها، ولأنها لم تكن ترغب في العودة الى بلدها اسبانيا، التي طردها منها فرانكو منذ 74 سنة. هذه باختصار قصة هذه الاسبانية ذات التوجه الجمهوري والعلماني، التي انتهت بأن تشتغل كسكرتيرة لأمير في بلد نظامه ملكي.

"كل شيء كان ورديا، اهتمامي الوحيد كان هو أين سنقضي العطلة، وخلافا لوالدتي، التي كانت تصفني بالمجنونة لأنني أريد أن أعمل، فقد تقدمت لاختبارات شركة الخطوط الجوية "ايبيريا" لتوظيف مضيفات على خط جديد بين مدريد وباريس، وكان المطلوب اتقان اللغة الفرنسية، وكنت قد درستها في باريس. وكان من الممكن أن أكون من أوائل المضيفات في هذا الخط، لكن الحرب الأهلية فاجأننا هكذا تبدأ حكايتها.
هربت من الحرب متجهة الى فالنسيا ثم الى برشلونة "في عام 1939 انتصرت قوات فرانكو، فخرجت أنا بما أرتديه من لباس أنيق، فقط بما أرتديه. ركبت شاحنة تضم بعض الرجال متوجهين وفارين الى فرنسا، تعرضنا خلال ذلك لعدة غارات وما تلتها من جرحى، حيث انتهى بنا المطاف في معسكر فرنسي للاعتقال، حيث كان هناك الآلاف من الاسبانيين، ومن هذا المعتقل كان يتم التوزيع على معتقلات أخرى. كانت لدى الفرنسيين تعليمات بأن المعتقلين أشخاص خارجين عن القانون وشيوعيون وفوضويون يقتلون الجميع. وكان بيننا نساء وشيوخ وأطفال، مما تسبب في فوضى عارمة، لا الفرنسيون يفهموننا ولا نحن نفهمهم".
وتضيف باكيطا: "وللتخفيف من حجم المعاناة وعدد المعتقلين الذين فروا من جحيم الحرب الأهلية، قام الفرنسيون بخطوة لتسهيل مغادرة البعض منا وإعطائهم تراخيص لذلك، اما في اتجاه المغرب أو الى الجزائر. وقد اخترت اللجوء الى المغرب رغم أنني لم أكن أرغب في ذلك، لكن لم يكن متاحا لي الاختيار. وقد اشترطوا على لمنحي ترخيص المغادرة، مساعدتهم في الترجمة بينهم وبين الاسبان المحتجزين، على أساس أن مغادرتي ستكون لحضور جنازة ودفن أحد أقاربي في المغرب. هكذا لجئت ووصلت الى هذا البلد، الذي أصبح ملاذي وبلدي".

اذا كانت أمنية باكيطا الموت والدفن في المغرب، فانه في مرحلة الخروج من المعتقل لم يكن لها الاختيار إلا اللجوء اليه، رغم أنه آخر مكان كانت ترغب في الذهاب اليه، لأنها كانت تعتقد أن حالة المغرب مأساوية. وفي المغرب بدأت حياتها كمربية أطفال، وبعدها سكرتيرة في معمل للفلين. لكن، جاء الماريشال "بيتان" وقرر بأن مكان النساء هو البيت والأجنبيات لا يشتغلن، فاحتالت لتحصل على عملين، الى أن ظهر في حياتها أمير.
فعن طريق صديق لها، توصلت الى العمل في القصر الملكي بالرباط كضاربة على الآلة الكاتبة في ديوان ولى العهد الأمير مولاى الحسن. في هذا الصدد تقول باكيطا "لقد تعرفت على الأمير وهو في سن أل 14 سنة، وأول ما تكفلت به، هو تهييئ دعوات مكتوبة لأصدقائه في المعهد، وكانوا ثمانية في المجموع بالقصر. وكان والده محمد الخامس صارما، حتى أنه في العطل كان يخصص له أستاذ، وكان يؤسفني ذلك".
مع الحسن الثاني، ستعيش هذه الاسبانية الجمهورية، حالات سريالية، "ففي كل مأساة، هناك دائما ما هو مضحك، كالذهاب الى مدينة تطوان لمشاهدة استعراض القوات الفرانكوية، كما تخليت عن الذهاب الى مدريد، لأنني رفضت بأن يختم جواز سفري الجمهوري بخاتم فرانكوي، وقد تفهم الحسن الأمر" تقول باكيطا.
وتضيف "حينما حصل المغرب على الاستقلال كان من الضروري دمج قوات شمال المغرب وجنوبه، وكانت الحاجة ماسة الى شخص يتقن اللغتين الاسبانية والفرنسية، فذكرت الأمير بأنني لاجئة سياسية، وهو أمر كان يعلمه، فأجابني بأنه ليست هناك مشكلة، لأن العاملين لديه لا علاقة لهم بفرانكو. هكذا كلفت بالمهمة كمترجمة لادماج القوات العسكرية، ومن هنا عرض على منصب سكرتيرته الخاصة".  
"فيما يخصني فقد كانت معاملته لي معاملة حسنة وجيدة. وحينما ودعته قال لي: السيدة كورونيو، هذا المكان سيبقى دائما بيتك، وحينما تحتاجين لأى شيئ ليس عليك إلا العودة إلينا".
لكنها لم تعد إلا مرة واحدة، فبعد سنوات تعرضت لمحاولة افراغها من المنزل الذي تكتريه، حيث ادعى صاحب المنزل بأنه سيحتاجه لقريب له، لكنه في الحقيقة كان يريد الرفع من سومة الكراء، فرفع بها دعوى في المحكمة، وأصبحت مهددة "اتصلت بالقصر وعرفت بنفسي، وبعد 5 دقائق اتصلوا بي ليخبروني بأن سيارة ستأتي لتقلني الى القصر، شرحت الأمر للأمير لكنه فهمني خطأ، لأنه بعد خروجي من القصر سألني مرافقي كم هو حجم ديوني، تفاجأت وأجبته، أي ديون؟ الأمر لا يتعلق بالديون، وفسرت له طبيعة القضية ولجوئي الى القصر. بعدها فهم الأمير القضية، وفي يوم انعقاد الجلسة لم يحضر المعني بالأمر، ففهمت أن الأمير تدخل للابتعاد عني وعدم الحاق الضرر بي".
إلى يوم وفاتها كانت تعيش باكيطا في ذلك المنزل المتواضع بالطابق الثاني، دون مصعد، بعد سنوات طويلة أكثر بكثير من التي كانت لديها حينما هربت من اسبانيا. ومنذ 12 سنة تعيش معها مغربية لمساعدتها والاهتمام بها. باكيطا تزوجت مرة واحدة وبعدها افترقت عن زرجها، وحاول شخصان آخران الزواج منها بعد ذلك، واحد فرنسي وآخر روسي، لكنها رفضت، ولديها ابن يعيش في عاصمة التشيك، براغ.
وحول امكانية عودتها لبلدها اسبانيا، كانت تقول "مرة واحدة فكرت في الرجوع إلى اسبانيا حينما انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وقد خرجنا، نحن اللاجئين في مدينة الرباط في مظاهرة للاحتفال رافعين أعلام الجمهورية، التي كانت في اسبانيا قبل فرانكو. لقد كنا نعتقد بأن فرانكو لن يطول به الأمر لإسقاطه، لكنه لم يسقط. بعدها جاءت مرحلة الانتقال الديمقراطي، لكن بقيت آثاره متغلغلة في أوصال اسبانيا. لهذا لم أعد ولن أعود".
باكيطا كورونيو تضحك بارتياح ورغبة، 74 سنة في المغرب لم تحولها الى ملكية، لهذا تذكر بأنه لسبب ما يسمونها (متيمة الرباط).




https://mail.google.com/mail/images/cleardot.gif

Comentarios