تأملات في الشأن الوطني الافلات من العقاب خصوصية مغربية بامتياز بقلم: المختار الغربي


 
في عهد حكومة الدكتور أحمد العراقي، أواخر 1971، تمت لأول ولآخر مرة محاكمة وزراء وموظفون سامون، بتهمة الاختلاس وتبذير المال العام والارتشاء. منذ ذلك العهد جرت مياه كثيرة حول هذه المظاهر التي تدخل في باب الفساد واستغلال النفوذ تورط فيها على مدى الأربعين سنة الماضية عشرات الوزراء والمسؤولين الكبار. لكن، جاء وقت أحس فيه المتورطون ومن يسهل عليهم الالتفاف على كل القوانين والأنظمة أن هناك رياحا جديدة تهب وتفرض عليهم تجديد لعبة الاختلاسات والاغتراف من المال العام وأساليب تطويع المؤسسات لصالحهم، الى أن وصلنا الى عهد (عفا الله عما سلف). بذلك تم ترسيم مظاهر الفساد والافلات من العقاب والمحاسبة، في وقت تجددت فيه بالقابل آليات المواجهة مع استغلال النفوذ. بمعنى، تمت الأمور بمنطق الشيئ وضده والمزاوجة والتطبيع بينهما، ضدا على كل تفكير سليم.
في بداية عام 1971 أصبح اسم المغرب على كل لسان عبر الصفحات الأولى لوسائل الاعلام الكبرى، التي نشرت تقارير مفصلة تتهم وتدين وزراء ومسؤولين كبار في الدولة المغربية بالاختلاس والفساد المالي، مما ضرب سمعتها في مقتل، جعلت الراحل الحسن الثاني يتفاعل بغضب شديد بعد مرور شهور من محاولة انقلاب شهر يوليوز 1971، حيث فرضت عليه خطورة الحملة الاعلامية في الصحافة الدولية والأفعال المنسوبة لمسؤولين مغاربة كبار، التحرك لتطويق تداعياتها السياسية، فقرر ارسال أحد أكبر معاونيه العسكريين، الجنرال محمد المذبوح، الى الولايات المتحدة الأمريكية لمعرفة أسباب تلك الضجة الاعلامية الدولية.
عاد المذبوح من أمريكا وفي يده قنبلة كبيرة وفضيحة من العيار الثقيل، حيث أمكن التعرف على أسباب الحملة والضجة، تتلخص في تورط مسؤولين مغاربة ووزراء في صفقة شراء قطعة أرضية من أجل بناء فندق لشركة "بانام" الأمريكية، وهى القضية/الفضيحة التي كشفت عن عشرات من قضايا الاختلاس والفساد المالي، التي توط فيها كل من: محمد الجعايدي، وزير التجارة والصناعة، مامون الطاهري، وزير المالية والتعليم العالي، عبدالحميد كريم، وزير السياحة، عبدالكريم الأزرق، وزير المالية الذي سبق الطاهري ومحمد العيماني وزير الأشغال العمومية، اضافة الى مجموعة من الموظفين السامين، من ضمنهم يحيى الشفشاوني، مدير مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية، عبدالعزيز بن شقرون، الكاتب العام للمكتب ذاته وادريس بلبشير ، مهندس بالمكتب، ناصر بلعربي، الكاتب العام لوزارة الشؤون الخارجية، ومجموعة أخرى من رجال الأعمال.
ملف هذه القضية الكبيرة بثت فيه محكمة عدل خاصة أحدثت لهذا الغرض. لكن، فيما بعد اتضح أن القضية مجرد حادث للعبرة، وليس أمرا قطعيا وآلية دائمة لمواجهة الفساد واجتثاثه، وكانت الأحكام المخففة الصادرة في حق المتهمين دليلا على ذلك، رغم ضخامة وخطورة الأفعال  المنسوبة اليهم.
بعد ذلك، أصبح للفساد والرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ والابتزاز والاغتناء غير المشروع حزب قائم الذات بكل رموزه وآلياته وتنظيماته، يشتغل بكل الضمانات التي تبعده عن المحاسبة والمتابعة والعقاب، مع توفير كل آليات الحماية. أكبر دليل عل ذلك هو غض الطرف عن الوقائع اليومية التي تتفجر يوميا والتساهل مع الذين هربوا الملايير وحمايتهم بقانون يضمن لهم عدم فضحهم ومتابعتهم. في هذا الصدد، فان لائحة مهربى الأموال الذين جاءت أسمائهم في اللائحة الأخيرة المنشورة من طرف "لوموند" لا يبدو عليهم أى قلق أو خوف. 
تتماهى النيات السيئة والمقصودة في الاضرار بالمالية العامة وتخريب الاقتصاد الوطني والاصرار على التفوف والاستعلاء مع أضرار أخرى سببها اتخاذ القرارات الطائشة وغير المدروسة التي كلفت وتكلف المغرب سمعته وحق المغاربة في الحياة الكريمة. وقد عشنا خلال الثلاثين سنة الماضية أمثلة صارخة على خلفية قرارات لمسؤولين كبار لا زلنا نعاني من تداعياتها بعد أن فر بعضهم بجلدهم ولا زال آخرون في الواجهة وآخرون جاءوا على أنقاض السابقين، ورغم ذلك لم تكلف أية جهة نفسها بمسائلتهم ومحاسبتهم وبالتالي معاقبتهم. أما أخطر ما في الأمر هو أن البعض من هؤلاء كوفئوا على جرائمهم وقراراتهم التخريبية بمناصب واعتبار أكثر مما كان لديهم وأكبر من حجمهم.
منذ ستين سنة والمغاربة يحلمون بحياة وغد مشرقين وفي نفس الوقت يتعايشون مع حكومات من سماتها البارزة الفشل والانتهازية والتطبيع مع كل مظاهر العجز والافساد، أكثر من ذلك، المعاناة مع تصرفات بليدة لأناس وضع في أيديهم مصير شعب يمارسون في حقه كل أنواع الشطط والسادية، سواء على مستوى السلطة التنفيذية أو على مستوى السلطة التشريعية، ناهيكم عن الأخطاء القضائية وانتفاء العدل والمساواة بين الناس، مرورا بفساد السياسيين وانتهازيتهم واستغلالهم البشع لمظاهر تدني مستوى الممارسة السياسية ومساهمتهم في ذلك بأمراضهم وعقدهم النفسانية، دون أن ننسى جرائم الصحافة وبعض المحسوبين عليها في التعتيم على كل تلك الاختلالات المريعة، وحتى بعض المثقفين الذين تخلوا بالكامل عن دورهم الطلائعي والتنويري.
من الملفات والقضايا الخطيرة التي تورط ويتورط فيها الكثيرون من تلك الطبقات، القابضين على مفاصل السياسة والمال والاقتصاد والاعلام، قضية الاستهانة بالمال العام ونهبه وتهريبه والتي تساهم في جعل مقدرات المغاربة  رهينة في يد المؤسسات المالية الدولية وتخريب الاقتصاد الوطني وافقار المغاربة وتعميق جراحهم المعيشية.
تهريب المال العام، بعد اختلاسه، وقع فيه لغط كبير ينم عن جريمة كبرى شارك ويشارك فيها عدد من الجهات في أكبر عملية خداع وتعتيم. هذا الملف يعتبر من الجرائم الاقتصادية التي تفزع الكثيرين من المتورطين فيه. ففي وقت تم الاعتراف رسميا من طرف مدير مكتب الصرف بأن هناك لائحة بمهربى الأموال وبأن المكتب لديه الوسائل للتعرف على المهربين ( تصريح لليكونوميست)، حتى أنه قال في حوار مع يومية مغربية بأن رئيس الحكومة لم يطلب لائحتهم، تداركت أطرف أخرى الأمر لتنفي ذلك، بالأخص تصريحات وزير المالية التي استغلها مدير مكتب الصرف ليتراجع عن تصريحاته ويعلن بأن مؤسسته لا تتوفر على لائحة معدة سلفا لأسماء مهربى الأموال الى الخارج. هكذا يتم ذبح الشفافية والحكامة المالية الجيدة وقتل الجدية في ممارسة المسؤوليات.  
هل تكفي الاشارة الى أن تقريرا أصدرته مؤسسة "بوسطن" الاستشارية الأمريكية سنة 2012 يؤكد على أن أكثر من 30 في المائة من الثروات التي تمتلكها الأسر الغنية في المغرب توجد أساسا في حسابات خاصة في بنوك سويسرا وانجلترا. في المقابل كشف  ادريس الأزمي الوزير المنتدب  لدى وزير المالية المكلف بالميزانية، بأن قيمة الأموال المهربة من المغرب الى الخارج هى حوالى 4 مليارات دولار.
هذه العملية الكبيرة والخطيرة، التي تعتبر ضمن الجرائم الاقتصادية، تشترك وتتورط فيها عدة أطراف، بداية من الذين يوصفون بالمجرمين مرورا بالأثرياء وبعض رجال الأعمال ومالكى الشركات والمقاولات، حيث يتبعون أساليب الاحتيال والخداع على عدة مستويات، كتهريب السلع والمخدرات والرشوة وغسيل الأموال، كما من ضمنها تزوير التصريحات الجمركية والتهريب الضريبي والتهريب السري لأرباح الأسهم والشركات والتلاعب بالمساعدات الدولية، وغيرها من الأساليب التي يتم ابداعها وتجديدها. وكلها تساهم في ضياع المغرب من امكانية الاستفادة من تلك الأموال لإقامة المشاريع الاستثمارية التي تعود بالفائدة على المغاربة والاقتصاد الوطني.
من بين ما يساهم في تبذير المال العام وعدم توظيفه في تحسين وتطوير الاقتصاد الوطني، وبالتالي تحسين الظروف المعيشية للمواطنين ومحاربة البطالة وانعاش سوق الشغل، تجدر الاشارة الى قضية يتم السكوت عليها في عملية تواطئ كبيرة بين جميع الفاعلين السياسيين. وكان المجلس الأعلى للحسابات قد أشار اليها في أحد تقاريره الصادمة التي تم التعتيم عليها، وهى المتعلقة بتدبير مالية الأحزاب التي تحصل عليها كدعم من المال العام، ولا تقدم مقابلها أى حساب عقلاني ومضبوط حول صرفه. 
هذه فقط عينة محدودة من مظاهر الفساد والافساد وهدر المال العام وتبذيره، حيث تتضرر الكثير من الحالات لمزيد من تأزيم الأوضاع المالية والاجتماعية والاقتصادية للمغرب والمغاربة.






Comentarios