" خطى الجبل " لـ محمد علوش : خطى الشعر الواثقة أحمد علي هلال *



يمكن لنا أن نتساءل في حال صدور عمل شعري جديد تُرى ما الذي يضيفه هذا العمل وعلى مستوى ما ينجزه الشاعر مبدعاً ، وعلى مستوى ما تنجزه الشعرية في تحولاتها وصيروراتها ؟.
لكن السؤال يذهب أبعد من ذلك وهو يستبطن منجزاً شعرياً ذا حساسية بعينها للشاعر الفلسطيني محمد علوش في عمله الشعري الجديد « خطى الجبل »، وهذا العمل بصدوره في الراهن الثقافي الفلسطيني والعربي وبمستوى ما يمكن قراءته محايثاً لتجارب وأصوات ، ومواكباً للتحولات الشعرية الفلسطينية ، على مستوى الموروث والحداثة ، ومدى ما يطمح الشاعر في إبداعه إلى أن يكون مغايراً ومختلفاً وباثاً أسلوبيته وخصوصيته ، سواء ما تجلى ذلك في المحكي الشعري الذي يصدر عنه أو في استثمار إرث القصيدة العربية والفلسطينية ، وصولاً إلى هواجسه المشروعة حقاً في الانجاز الشعري القائم على علامتي التخطي والتجاوز ، كشرط غير منته لأفعال الشعر.
خطى الجبل – تلك المدونة- والتي جهرت بمحمولاتها الدلالية ومرجعياتها الشعرية ، تضعنا على غير أفق للقراءة الفاحصة بتعدد أصواته وحضورات دالاته الشعرية التي تقوم على إحراز الدلالة وفق ما يمكن تسميته بعمارة القصيدة ، فضلاً عن أن « التيمات » المصاحبة لقصائده سوف تتكرر كلازمة إيقاعية ووجدانية وأسلوبية لعلها تختص الشاعر وحده ولا تحيل لسواه ، وفي ذلك المستوى نلتقط إحدى فرادات الشعر في تكويناته والتقاطه لخيط النسيج المؤسس لقلق الشاعر الفاعل ، ولاستبطانه أصواتاً وأزمنة وجهراً بالأمكنة ، الدالة على روح الإنسان وتغير مقامه ، لكن الدلالة الأوفر هي في حظ الشعر أن يبحث أبداً عن علاماته الفارقة ، أي في نزوعه إلى أن يشكل جبهة مقاومة بامتياز الجمال ، وحساسية الشعر حينما يذهب إلى أن يكون صوتاً خالصاً يعيد تأثيث الأمكنة والأزمنة والحيوات ، والذاكرة القادرة على الاستعادة والحضور والاستشراف في ممكنات القول الشعري ، فما يقوله الشعر دائماً وأبداً هو اللصيق بصوت الجوهر، وكيف إذا كان هذا الصوت محمولاً على أبدية الشعر، وطزاجة المكان الفلسطيني الحاضر، وطزاجة روح المقاوم حينما تذهب إلى أمكنتها المحلومة ، وتستعيد غير حياة لأرواح رموز وشخصيات ومحكيات ووقائع ، تصبح فيها أفعال الشعر هي أفعال الحياة بامتياز، وهي المعادل أيضاً لتلك الحضورات ، فالشعر بهذا المعنى هو صاحب الدلالة القصوى ، سيما فيما يتبدى من دلالة العنوان « خطى الجبل » المفتوحة على أكوان ذات شاعرة تمتلك موقفها من العالم ، وذلك عبر رؤية وفضاء ، وعبر حضور التجربة ذاتها والتي يُشتق معها مساءلة الصنيع الشعري في بنيته الفنية وتحولاته وشرطه التاريخي ، وسياقاته الموزعة على تشكيل الصور والإيقاع ، كما المستويات النحوية التي تجهر بها غير قصيدة ، أي في حالات استثمار الفعل المضارع ، وليس بالاتكاء وحسب على الفعل الماضي ، ما يعني الانفتاح الدلالي على الأزمنة الجديدة التي يطمح الشاعر – علوش- إلى جذبها بقوله الشعري الأكثر جدارة بالتأمل من داخله وخارجه ، ومضمراته الكثيرة ، وفعاليات التكثيف وشواغل الكتابة من الومضة إلى القصيدة إلى الشذرة وهكذا... إذ يعلن الشاعر أنه أتى حاملاً روحه وريحانه ، وجاء وفرسه بلا أجنحة ، وهواه سر حكايته.
إذن هنا ثمة تعضيد للدلالة بأن « الهوى » هو ماهية قصائده التي تنحاز إلى الحياة ، وعبر ما تقترحه ذاته الشاعرة ، ليقول: « وأمسح عن جدائلك الهزائم/ وأسرج أحلامي المعذبة/ وأنبض فيك ملحاً وماءً ».
لكن ذلك سيستوي فيما صيرته إليه أحزانه المعتقة ، وانتظاراته الكثيفة ليكون مجازه في العشق ، هو الوطن المستعاد أرضاً وإنساناً وذاكرة وقصيدة.
« للانتفاضات الصغيرة فلسفة تأخذنا إلى عالم للأبجدية والمعجزات/ هي انتفاضة جيل حسم القرار.... وأطل من بين الأضرحة شهيد لم يمت بعد/ ممسكاً بناصية الوصية/ يا أمي لن أبرح المكان ولن تهون عزيمتي ».
هي قصيدة المكان وأكثر، لكن المكان هو الهوية المستعادة الدائمة الحضور والمتجذرة في الوعي الجمعي والفردي ، لكأن القصائد المحمولة على أفق الانتظار ، ثمة ما يسفر عنها ، وهي تستشرف من ثقافة المقاومة فكر الانتفاضة ، وتعيد تشكيله في الرؤى والوعي ، ليصبح جدارة ذلك القول الشعري ، ولتصبح القصائد ها هنا مجاز وصية كبرى ، هي وصية المكان وخلق الكثير من الحوافز لأن تكون ماهية المكان إنسان يقاوم بذاكرته ووجوده « وناياتنا فوق برج معسكر التوقيف/ فأنتم صرخة القيد/ وجرح المخيم/ وأنتم فجر تموز المزنر بولادة الفكرة».
فمن عطر الشهيد والذكريات إلى فضاءات حنظلة ، الذي يستعير الشاعر صوته ليقول : « أنا جرح الورد النازف/ وضمير الفقراء/ طائر القلب المشرد.... وما زلت أعزف طائراً في سماء البوح.... قتلوني بعيداً/ ولكنني لم أمت/ أدرت ظهري لهم ».
وللشاعر أن يطل على ما يريد ، وحسبه أن يأخذ خيول قصيدته إلى الأقاصي والتخوم ، إذ يستعيد سيراً صغيرة تصب كجداول في السيرة الكبيرة التراجيدية ، هي سيرة فلسطين ورموزها من أسرى وشهداء وأحياء وذكريات ، وفي ذلك ما ينطوي عليه معنى إضافي لدلالة العنوان « خطى الجبل » الذي يتعدد ويتطيف ، لكنه وهو يعلن هويته يقول : « ماض بخطى ثابتة/ أعلق فوق أعناق الجبال معجزتي ومهجتي/ وأنثى زهرة عمري/ باقة للسفح/ وقبلة على خد القمر/ توجتني الجبال أسيرها/ وفارس أحلام لصباحها الندي ».
وفي انفتاح الهوية الشعرية نقرأ ، الغنائية كعلامة فارقة، وكتجليات لذات تتعدد في وحدتها، وتجهر بجمال وصيتها وعناقها لأرض الشمس ، ولأرواح تقاتل لتكون بحق حارسة حلم كبير، فهي التي تجهر بسيرة المكان ، داخل المكان وليس خارجه ، إذ المكان ليس جغرافيا فحسب ممتدة في  كل الأرض التي بورك حولها ، كالشام التي يظهر شاعرنا متيماً بها ، إذ يقول: « متيم بالشام/ بجدول عشقها/ تنبع من بردى دموعاً وشوقاً/ أطل على قاسيون/ جبلاً شامخاً أبداً/ أقوى من زحف أشرار.... شآم يا خريطة عمرنا/ وروحنا الباقية/ تعبق ياسمينا.... لأجيال قابضة على حلم/ وأحتسي نبيذك حلالاً/ معانقاً عروبتي الباقية/ بقاء شآمي وسمائها العالية ».
هكذا يأخذنا الشاعر محمد علوش ، إلى محكيات الشعر ليصطفي رؤيا وموقف ، وفي ذلك الدلالة الباقية للشعر ، حينما يكون سادن القضية ،  وعياً تنهض به شعريته المؤسسة على فرادته وتنوع إيقاعاته ، وتدوير قصائده ليحتفي بالجميل من الذاكرة ، ولتكون قصائده في دلالاتها البعيدة أكثر انفتاحاً في رؤيته ، وخصوبة تعبيره ، وكثافاته الجمالية الحاضرة كحضور رموزه وشخصياته ، واستبطانه لما جهر به يوماً الناقد الفلسطيني الكبير الراحل يوسف سامي اليوسف ، حينما رمى على الأسماع سؤالاً كبيراً ، ما هو الشعر العظيم ؟

Comentarios