عودة إلى دار بريشة " زمن القفيفلات والطرارح"




تعليقا على الموضوع المتعلق بدار بريشة، الذي نشرناه أمس، أفادنا الدكتور حمزة المساري بهذا النص من كتابه القيم "أحاديث من باب مرشان"، وهو بعنوان:
" زمن القفيفلات والطرارح"



     "كثير من الرجال بهذا البلد أمنه الله ورعاه من شر ما خلق، ازدادوا به وبه كانت عقيقتهم ثم إعذارهم، إلا أنهم حرموا من الكفن، والصلاة على الجنازة وحملهم على الأكتاف، و أصوات الذكر تتقدم الموكب إلى مثواه الأخير.

     عبد القادر برادة وصهره، حفرا قبريهما بيديهما، ثم إنهما ماتا بأبشع الطرق، منهم من زعم أنه توفي برصاصة في رأسه، وقيل أنه ووري الثرى وهو حي يرزق، ثم مات بعدها اختناقا في قبره.

     وآخرون اختطفوا في واضحة النهار، لينكل بهم أشد التنكيل، و ليدفنوا بعدها في قبور جماعية من دون مراعات اتجاه القبلة، غير بعيد عن السجن القديم الكائن بملاباطا، حيث كان يقيم الحجاج فيما مضى بعد رجوعهم من أداء الفريضة، ليمكثوا هناك أربعينيتهم، للتأكد من خلوهم من الأمراض المعدية.

     أهالي المداشر القريبة من هذه المقابر من دون شواهد حجرية، كانوا يسمعون أنينا يصير بعدها نحيبا ثم عويلا كلما أرخى البهيم سدوله، تأتي من جهة المدافن . كانوا يخافون، ثم يتضايقون من تلك الأصوات في البداية خاصة عشيات فصل الشتاء، إلا أنهم ومع مرور الزمن، سلموا وبالقطع أن الأرواح المزهوقة كانت تأتي عند حلول المساء، لتبيت ليلتها عند مقابرهم تبكي وتنتحب ما لحقها من الظلم والحيف والرحيل القسري المبكر. أضحى الأهالي يزورونها كل جمعة، ويلقون بلفافات الريحان في كل الفضاء شذر مذر، وفي أسف عن غياب شاهد على مراقد الرجال. الكلاب وحدها لم تكن لتسمع تلك الأصوات، ولو كان الأمر كذلك، لامتد النباح إلى سيدي المناري، وطنجة البالية، ومدشر النوينويش، ثم لسرى كسيل جارف إلى باقي قرى ومداشر منطقة أنجرة وحتى جبال الريف. 

    ... ينأى سيدي عبد السلام بنفسه عن حديث المخمصات والتخم، ليجول بعينيه في الفضاء، مستحضرا روح الراحل عبد القادر برادة المختطف من طرف زبانية حزب "الاستخراب" كما كان يحلو للرجل تكنيته.

     يحكي سيدي عبد السلام أنه رأى الراحل علال الفاسي ولأول مرة بمنزل إحدى العوائل الميسورة بحي مرشان العامر. ثم إنه دخل عليهم بدوي من فحص طنجة، فحين كان يهم بخلع بلغته بباب الغرفة المفروشة بالسجاذ، قام إليه سي علال وأخذه من يده قائلا : "هذه السجاذات كلها لا تساوي بلغتك". وقد انتفض الحاضرون وغمرهم ما غمرهم من الانتشاء بتواضع الرجل ووطنيته الصادقة، ونطقوا بالإجماع أن هكذا تكون الزعامة . من يومها لم يكن للناس حديث إلا عن سيدي علال وعن بطولاته، حتى لو أنه كان بمقدورهم لأقحموا اسمه في الأذكار وفي الصلوات.

     ثم إنه طفق يحدثهم أن الاستقرار بالمدن، خير لهم من المكوث في البوادي، وأن رزقهم سوف يأتيهم حتى أيديهم رغدا مما تخرجه أرض بلدهم من جوفها من الفوسفاط ومن سائر الثمرات، وعباد الله مستبشرين مطمئنين فرحين بانجلاء المستعمر والقهر، وحلول أهلة سعود الحرية والاستقلال. 

     اختطف المرحوم بكرم الله عبد القادر برادة رجل الأعمال وصاحب العرصة التي تقام فيها الوزيعة، بمعية صهره عبد الحميد بوسليخن، بضع أيام قبل الإعلان عن الاستقلال. كان الرجلان يستقطبان إخواننا من جبال الريف الشامخة، ليلتحقوا بحزب الشورى والاستقلال. ثم إنه كان قبل ذلك شنآن بين زعيم الحزب الراحل محمد بالحسن الوزاني الذي خاطب علال الفاسي وقد بلغ السيل الزبى من ملاحقات وتصفيات حزب الاستقلال لأعضائه، بأن جامعة القرويين أخرجت الآلاف من أمثاله، إلا أن الجامعة الفرنسية التي نال منها الإجازة ، تخرج منها من المغاربة ما يعد على رؤوس الأصابع. 

     كان المختطفون يقتادون ضحاياهم إلى أماكن بضواحي المدن، استعملها أصحابها من الأعيان زمن الاستعمار، للنزهة والاستجمام بحدائقها وعرصاتها، إلا أن زبانية حزب الاستقلال صيروها سَقَر الحياة الدنيا، وأذاقوا فيها عباد الله أشد العذاب، من حشرهم في براميل ملئت بالفضلات والقاذورات، أو بتلك التي شحنت بمادة الجير الآكلة والملتهمة للأجسام. القيمون على هذه المعتقلات نالتهم بركات الاستقلال، فمنهم من صار مسؤولا رفيعا في دواليب الدولة، ومنهم من صار قائدا لمنطقة ، بل وحتى من عين منهم عاملا على إحدى المدن، ومن ذرياتهم من هم اليوم أطرا كبارا بالدولة، ومتصرفين بكبريات الوزارات. 

     يجزم سيدي عبد السلام أنه يعرف أسماء المُختطِفين ، إلا أنه يكتفي بالحديث عن شيخوختهم الباهتة، وعن أمراض فتاكة ألمت بهم، أفضت إلى موتهم البطيئ البشع، وكذا انحراف في ذرياتهم، أحرق منهم الأكباد، كما دموع الثكالى وأنين الأيتام الذين كانوا هم أنفسهم سببا فيه.

     يتذكر حديثا أفضى إليه به بوجهينة، يوم اقتحامه خلسة إحدى المنازل، ثم دخوله غرفة نوم المختطـَـف الذي هم بالاستنكار والصياح، إلا أنهم وضعوا في فمه ثياب زوجته الداخلية، ووضعوه في سيارتهم، ليتم اقتياده إلى إحدى تلك المعتقلات النائية كجنان ابريشة بتطوان، أو دور الصدر الأعظم المقري وما أكثرها، وفضاءات أخرى بغفساي، وببعض المناطق النائية."

Comentarios