أجمل قراءة في مرويات الأديب حمزة المساري "أحاديث من باب مرشان" بقلم : ذ. رشيد العفاقي


       أتقدم بالشكر إلى صديقي الأستاذ الدكتور سيدي حمزة المساري على تشريفي بتقديم قراءة في كتابه (أحاديث من باب مرشان) يوم توقيعه. كما أهنئه على صدور عمله الأوّل. وكلمة "الأوّل" ينبغي أن توضع بين مزدوجتين، لأن عملا بهذا التماسك، وبهذه المهارة في الحكي، والسلاسة في السرد، يستحيل أن يكون هو الأول، إنه بلا شك قد سبقته كتابات لم يشأ الأستاذ حمزة المساري أن يظهرها للناس حتى الآن. وحتى نكون دقيقين في التسمية نقول: "عمله الأوّل طباعة ونشرا".

     كتاب (مرويات من باب مرشان)، أو نصوص الكتاب، تحتمل قراءات متعددة، وأنا أحب أن أقدم رأيي في الكتاب من زاوية تاريخية، ليس لأنّ تخصصي التاريخ وإنما لأن الكتاب فعلا نصٌّ تاريخي. لا أنفي الطابع الروائي للكتاب، أي بما هو وقائع متشابكة وأحداث، وهناك عقدة وموضوعة أو موضوعات، ثم إنه يتخذ عنوان مرويات، ولأنه أيضا كُتب بلغة أدبية رفيعة المستوى. ومع كل ذلك فإنّ المادة التاريخية في هذه المرويات كانت مهيمنة على ما عداها.

     لقد اعتدنا أن نقرأ في صدر الروايات الحديثة هذه العبارة: (جميع الشخصيات المذكورة في الرواية هي خيالية .. وأي تشابه بينها وبين الواقع هو محض صدفة).. وهذه الصدفة تكون في كثير من الحالات ضحية، وتجرّ معها عددا من الضحايا، لأنه سيُكتشف لاحقا أنّ الكاتب تناطح على جغرافية الواقع مع العديد من شخصيات روايته، ولا أدري هل عبارة "تناطح" في محلها أم لا ؟ إلا أنني أعتقد أنه في بعض الحالات يصل الأمر إلى ذلك الاصطدام المروّع. ولو كان الأستاذة حمزة المساري سلك ذلك المنحى الذي يتخفى وراء أسماء مستعارة ويتذرع بالصدفة لكان ضيّع علينا نصا متميزا جدا عن فترة حيوية من تاريخ طنجة، لأنه سيأتي لاحقا شباب من الجيل الطالع يقول إنّ هذه المرويات هي مجرد وقائع خيالية أو لعب فيها التخييل بدرجة كبيرة حتى ذابت الحقيقة فيها أو تبخرت ولم تعد موجودة، وللأسف سيكون من الصعب إثبات العكس.

      ولكن الأستاذة حمزة المساري أدرك القيمة التاريخية لمروياته، فلم يشأ أن يلتجأ إلى تلك الخدعة السمجة، وإنما تعامل مع الحكايات بأسلوب السرد الواقعي، فجميع شخصيات (أحاديث من باب مرشان) حقيقية، وجميع الأسماء المذكورة في المرويات هي أسماء لشخصيات وعائلات طنجاوية معروفة، وفي بعض الأحيان أسماء مرموقة، وجميع الوقائع المسرودة في الكتاب هي وقائع لها مكان مكين على جغرافية المدينة القديمة لطنجة. وبالتالي فهذا يكفي لأن يجعل من هذه المرويات نصا تاريخيا خالصا، وكلما تقدم الزمن ازدادت قيمته التاريخية.

      فضلا عن ذلك فإنّ الكاتب لم يشأ أن يُنَصِّب نفسه بطلا لمروياته كما يفعل بعض الكتاب هذه الأيام، الذين ينصبون أنفسهم كُهّانا في محراب رواياتهم وقصصهم، وإنما أصرّ الأستاذ المساري على أن يكون راوي حكايات كان شاهدا عليها وراصدا لتفاصيلها، وإن كان يظهر في بعض منعطفاتها حينا، ثم يتوارى عن الأنظار أحايين أخر.

     أما طبيعة هذه المرويات فهي تكتسي صفة "الطنجاوية" بامتياز، أو بامتياز ممتاز بتعبير الأديب محمد الصباغ رحمه الله. لقد أدهشني حقا ببعض التفاصيل التي ما كانت تخطر أو تحضر في البال لولا الأستاذ حمزة المساري الذي يتمتع بحاسة التقاط غريبة لتفاصيل عدد من الوقائع التي جرت في طنجة القديمة، من ما قبل سنوات الستينيات إلى أواسط الثمانينيات، وهي فترة باذخة بتفاصيل تغيرات في حياة المدينة والمجتمع طرأت على طنجة في عهد الإدارة الدولية وما تلاه من عقود الاستقلال. وهي وقائع تتعلق بفئات من المجتمع الطنجي، ويتشارك فيها فئات أخرى من ذات المجتمع، عاشوا في نفس الفلك، واصطبغوا بنفس الألوان.
وقد دوّنها الأستاذ حمزة المساري بأسلوب غاية في الأصالة الطنجاوية، بل إنه أحيى الكثير من الألفاظ الطنجاوية التي اندثرت أو تنوسيت بتوالي الأيام والسنين وبتدفق عدد من الروافد التي صبت في المجمتع الطنجي وأفقدت لغته قسما من أصالتها، وفي هذه المرويات لم تغب الطبيعة المرحة للطنجاوي إذ قدم الأستاذ حمزة المساري عددا من المرويات الممزوجة بسخرية محببة وببعض الاستعارات والتشبيهات الملهمة والفياضة.

    في آخر هذه الورقة أود أن أشير إلى شيء في غاية الأهمية، وهو أن هذه المرويات التي ترصد تفاصيل الحياة اليومية بطنجة كتبت بعيدة عن طنجة آلاف الأميال، فالأديب حمزة المساري هو أستاذ اللغة الإسبانية بإحدى جامعات جمهورية التشيك بأوربا الشرقية، وأن يأتينا نص عن مدينة طنجة متخما بتفاصيل الحياة الطنجاوية فإنّ هذا يدل على درجة كبيرة من عشق الكاتب لمدينته التي لا يدعوها في مروياته إلا بـ(طنجة الخير).

    وأود أن أستشهد بفقرة واحدة من نصوص الكتاب، وهي التي تتعلق بعائلة عربيطو، يقول الأستاذ حمزة المساري (ص.163

"عائلة عربيطو من العوائل النازحة من الجزائر، وقد حملوا منها بعد أن تشربوا وارتووا من عيون نغام مدرسة تلمسان الفاتنة، تظهر جلية في طريقة نفخهم الساحرة ثم العجيبة على آلة الغيطة أو البوق، ثم إنّ أخا لهم كان من كبار العازفين على آلة الرباب الأندلسية. وقد اشتهروا في طنجة الخير بالحدادة، فقد كان أطفال المدينة القديمة يتباهون بمسمار المدوان أو "الطرومبة"، وهو من توقيع الحداد عربيطو، فيرددون في ازدهاء وافتخار بأنّ "النبال اد عربيطو". وخلال حرب الريف ضد المستعمر الإسباني، كان الإخوان عربيطو يصنعون الأسلحة من نوع "المكاحل" خفية للمجاهدين، إلى أن وصلت الوشاية بهم عن طريق الخونة والمتآمرين. يصل مجهولين إلى حومة سيدي موسى بحي القصبة القديم، ويطرقون باب عائلة عربيطو تحت عتمة الليل طالبين رؤيته ثم الإسرار به بأمر يتعلق بالجهاد. كانت المرة الأخيرة التي يخرج الرجل فيها من منزله، ليستشهد بعدها، شنقا على يد الأيدي الآثمة، وعلى شجرة ليست بالبعيدة عن ملعب حي مرشان).

    إن هذا النص لوحده يحمل الكثير من الفوائد التاريخية والاجتماعية المرتبطة بنمط العيش الذي كان سائدا في طنجة في زمن الإدارة الاستعمارية الدولية، وما قبل هذا الزمن. فهو يؤرخ لعائلة عربيطو التلمسانية ومساهمتها في الموسيقى الأندلسية، وفي تزويد المجاهدين الريفيين بالعتاد الحربي في أوائل أيام الاستعمار الإسباني، كما تفيد أيضا حول لعب الأطفال بالمدينة. ونشير إلى أنّ نصوص هذا الكتاب كلها تسير على هذا النسق في الحكي والإفادة التاريخية.

      ثم إن الاستاذ حمزة المساري توفق بشكل كبير في اختيار عنوان الكتاب (أحاديث من باب مرشان)، فباب مرشان هو الباب الرئيسي لقصبة طنجة هذه القلعة التاريخية العتيدة، وقريبا من هذا الباب كان يقوم - وأظنه لايزال قائما- منزل عائلة الأستاذ حمزة المساري، حيث مربع طفولته وصباه، وفي محيط هذا الباب وفي فلكه جرت العديد من مرويات هذا الطنجي الأصيل.

     ولكي نلمس القيمة الكبير لكتاب (أحاديث من باب مرشان) علينا أن نتعرف على نوع الكتب التي صدرت حول مدينة طنجة في هذه الألفية الثالثة على الأقل، فقد كنت متتبعا لكل ما يصدر وما يطبع من كتب ومجلات ومقالات حول مدينة طنجة من عام 2000م حتى الآن (2015م)،.. والحقيقة أنهم صدّعوا رؤوسنا، بالمعنى الفصيح للتصدّع، بأخبار بول بولز وعشيقته، ووليام بوروز وغلمانه، وترومان كبوطي وعربداته، وبأخبار تنيسي وليامز وجون جونيه وجاك كرواك، وباقي شلة الأنس والليالي الماجنة،.. وقد عملت مؤسسات ودوائر محسوبة على الثقافة جاهدة على ترويج طنجة بهذه الصورة،.. فغابت الأصالة المغربية، وأصبح المسخ والتفسخ هو سيد الموقف بلا منازع. ومن هنا فهذه المرويات الطنجاوية التي دبجّها يراع الأستاذ حمزة المساري فتحت حقيقة بابا في الأصالة المغربية وأعادت الاعتبار للمفهوم الراقي للكتابة المحلية التي تُشَرِّف البلد والناس وتاريخ المدينة عامّة.

    شكرا صديقي الأستاذ حمزة المساري على هذا النص التاريخي الرائع، فقد كنت بحاجة إليه، وقد استفدت منه، وسأزداد استفادة منه في أبحاثي التاريخية، والغوية إن إنه يحمل فيضا من المصطلحات المنسية، وبالتالي يُعَدُّ منهلا خصبا للغة المحلية الطنجاوية المتميزة بالرقة والعذوبة والفرادة.

Comentarios