من سلسلة "أحاديث مع الجرو وطائر الكنار" للدكتور حمزة المساري تقديم المختار الغربي:



مرة أخرى يهدينا ويخصنا الدكتور حمزة المساري بنص من سلسلة مؤلفه 
الجديد، المنتظر صدوره قريبا بعنوان "أحاديث مع الجرو وطائر الكنار"، بالتالي، نقدم له خالص تشكراتنا وعرفاننا.

" حورية بوطيب وربيع العرب"


أستسمحك أيها الجرو عن تأخري عن موعد فسحتك, فدقيقة تأخر, كلفتني الوقوف ساعة كاملة بمحطة الحافلات. أسمع نباحك والمفتاح يستدير بالباب, تحرك ذيلك الصغير لتحيتي, ثم ما تلبث أن تختفي بين الأكياس تحت طاولة المطبخ, وكأنك تحس بذنب اقترفته في حقي.
سوف لن أوبخك أو آخذ بخاطري منك, فما فعلته هو عين وصلب طبيعتك, وقد أعجبتني لباقتك. اخترت تلك الرزمة من الجرائد التي كنت أستعد لرميها بالقمامة, لتقضي عليها حوائجك. كثير من الجرائد أيها الجرو, وزد عليها بعض قنوات التلفزة, لا تستحق الا ما فعلته أنت بها.
بالأمس وقفت تلك المذيعة في سابقة لم نشهدها قبل ومنذ أن كانت لنا تلفزة, وكأن الربيع العربي امتد من ميدان التحرير,لتزهر براعمه داخل هذه البناية التي صنعت وعينا, وأنست عشيات طفولتنا, لتؤثث ذاكرتنا الجماعية. نقاطعها اليوم زاهدين في غثاء انتاجها وفي أسف. ثم ما يلبث أن يهزنا اليها الحنين عند مغارب وعشيات رمضان الحافلة, بطعم النأي والغربة, والبعد عن الأوطان.
كانت المذيعة بعد أن اخترقت جدار الصمت الرهيب, تتحدث من غرفة صغيرة بمبنى الاذاعة, حشر فيها نفر من العاملين, يخيل اليك أنها حجرة من منزل متواضع بالمدينة القديمة, تسكنه ومنذ أمد سيدة أرملة.
طفقت مقدمة نشرة الأخبار باللغة الاسبانية تعدد على الأسماع ما خفي واستتر وراء ستور الكواليس, مما لا يمكن أن يصنف الا في خانات العبثية, في تلفزة تتبادل مذيعاتها الألبسة والفساتين فيما بينهن, حتى لا يظهرن كل يوم وبنفس الكسوة.
محنة المغاربة مع اذاعتهم و تلفزتهم تبدأ يوم صارت عمالة تضاف على عدد العمالات والأقاليم بالوطن. ثم تصير بعدها اتراجيدية, يوم أطلق العنان للوزير البدوي يعيث فيها فسادا, ويقوض أركان رصيد محترم, راكمه ثلة من أبناء الوطن, ممن كانوا يحلمون يوما بالاستقلال, والرقي بالفن الى الدرجات العلا, قصد تهذيب أذواق الناس.
محنة المغاربة تبدأ يوم ولي عامل على الاذاعة, تتبعه تلك الآلة الصدئة ببراغيها من البشوات, والقياد والخلائف ثم المقدمين, وكأننا بأحد الأحياء من المدن العتيقة, ثم سرطانات من النوع الخبيث تكنى بأعوان السلطة.
أيامها كان مقدموا الأحياء, يطوفون وعيونهم تبحث مقتنصة في السطوح والشرفات عن صحن مقعر, بينما كان الوزير يستعد لفرض ضريبة على من يزهد في تلفازه, وتسول له نفسه أن يتفرج على العالم.
كان مقصده ونهاية أربه أن يؤمن المغاربة بالوهم, وألا يروا الا مايرى هو, ثم منع عليهم النظر الى أنفسهم, الا من خلال مرآته.
الحياة عنده كان يوجزها في أشكال كرنبالية بدائية, من فرحة جمع الغلة, ونصب الخيام والموائد والرقص, ثم ملؤ الفضاء بالغبار, وصهيل الخيول, لتعم بعدها رائحة البارود.
حتى اذا ما حضرت نشرة الأخبار, فطول بالك أيها الجرو. فمذ فتحنا أعيننا وأسماعنا على العالم, ونحن نسمع ذاك الصوت الذي خرج عن سنة الناهيان الشيب والكبر, وهو يردد نفس اللغة ونفس الانشاء:" فالأعناق تشرئب للتملي..., والزيارة الناجحة بكل المقاييس..., ومشاريع الخير والنماء..., وأمطار الخير والبركات..."
وماكان للبدوي أن يطيب عيشه ويهنأ, الا بوجود البدو من طينته, وتوظيف أبناء عمومته, فاستشروا في دواليب الاذاعة كسيل جارف. حتى أذا اجتمع أصحاب الفيل هؤلاء, وليس للدار من حامي, حولوا المشهد الى صفقات تستقر ثم تودع في يد من يوفي في الدفع, أو يقيم على شرفهم الممرغ في الأوحال, ليال صخب ومجون رخيص, أو تلك الطامحة في الوصول الى النجومية من أقصر الطرق, عبر المرور بغرفة نوم المسؤول, ثم ترن الهواتف, آمرة بأن تمر فلانة في البرنامج, حتى ولو كان صوتها يقطر بالنشاز, وتتعدد المشاهد الا أنها تتوحد في صور المذلة والخزي.
كل هذا على حساب المشاهد المسكين, الذي تصله من أيديهم المتخلفة, برامج ومسلسلات من الرذاءة, ما يضجر منه , بل ويتثاءب البقر.
كان فيما مضى أيها الجرو, وكأني أقص على مسامعك الحكايا, لدار الأذاعة جوقها الرسمي, ثم أجواقها للفنون الأصيلة, فكان جوق الآلة, ثم جوق الغرناطي, وجوق الملحون, وفرقة المسرح والتمثيل التابعة لها...وكلهم موظفون, يصرف لهم أجرهم, آخر كل شهر.
سرحت الأجواق كلها, وأحيل على التقاعد من أحيل, وامتدت يد المنون الى الغالبية.
عشنا أيها الجرو, حتى رأينا رباط الفتح تسرح أجواقها, بينما لتل أبيب, جوقها لموسيقى الآلة المغربية.
الكفاءات يحكم عليها في عرف الزبانية بالتهميش في انتظار الاعدام, فهاهي ذي مطربة أصيلة لفن الملحون, تطير متوجهة للبحث عن مستقبل لها بالخليج العربي, وفنانة أخرى من العيار الثقيل, فضلت أن تتفرغ لعملها الذي تكسب منه قوتها, ثم كادت توصد باب بيتها, يوم رأت الذباب قد اجتمع على الطعام, والأمثلة تتناسل وتصير كثرا, وما ينطبق عن الغناء, تئن تحت وطأته باقي الفنون.
لم يبق لنا من الفن الرفيع المحترم, الا "شدى الألحان", ندعو له كل يوم بأن يحفظه الله من الأيدي الآثمة, ثم برنامج "في البال أغنية, يذكرنا بالفن الراقي من الزمن الجميل, وبرامج أخرى على قلتها, لا نجد لأصحابها, الا حسن الثناء والشكر.
آن للوطن أن "يستقمل" اذا صح التعبير, كل تلك الطفيليات من الزمن البائد, وكل تلك التي تعيش على الامتصاص, وكفانا من التعيينات بالمراسيم, حتى لا نحرج الوزراء أنفسهم أمام عتات الموظفين الذين يتحدون وفي سفور الوزارة التي يفترض احترام تبعيتهم لها.
نحن نؤمن بالتعددية الثقافية لمختلف ربوع الوطن, الا أننا نكفر بالفن الساقط, والذوق الرذيئ المبتذل. وقد آن الأوان أن نفكر و بجد و بمسؤولية في التلفزات الجهوية, واستقطاب أبنائنا من ذوي الكفاءات في عالم السمعيات والبصريات سواء في أرض الوطن أو خارجه, شريطة أن يكف الزبانية عنا أيديهم, ثم لا يحشروا أنفهم, فيما لا يعنيهم.
حان وقت فسحتك أيها الجرو, أرى أن صوت السلسلة يطربك, وها أنت تخرج من مخبئك تحت الطاولة, ما بين أدوات النظافة, و أكياس البلاستيك, فلنمض لهنيهة الى الخارج.

سيرة المؤلف

من مواليد مدينة طنجة في 21من شهر دجمبر 1964 بحي طريق اشبيلية
كسائر أطفال طنجة آنذاك تابع دراسته بكتاب قرآني بحي الحافة, ثم التحق بمدرسة "أمراح" التي تحمل اليوم اسم الفاتح عقبة ابن نافع. يتابع دراسته الثانوية باعدادية ابن الابار, ثم بعدها بثانوية ابن الخطيب

ينتقل عام 1984 الى مدينة تطوان حيث سينهي مشواره بالحصول على الاجازة في اللغة الاسبانية وآدابها.
يحصل عام 1990 على رخصة مرشد سياحي وطني ويزاول هذه المهنة.
ينتقل للأقامة بجمهورية الشيك عام 1996 ليحصل على الماستر في اللغة الاسبانية وآدابها من جامعة أسطرابا. وليعمل كأستاذ للغة الاسبانية وآدابها بنفس الجامعة
يلتحق بكلية الاقتصاد وتسيير المقاولات بجامعة كاربينا, ويعمل أستاذا للغة الاسبانية
يحصل عام 2009 على دكتوراة الدولة من كلية الآداب والفلسفة بجامعة مدينة "برنو" شعبة الأدب العالمي وعلم السرد
يشتغل حاليا بالتدريس بكلية العلاقات الدولية قسم اللغات والثقافات بجامعة "مينديلوبا" بمدينة "برنو"
أستاذ مشرف على الأطروحات والرسائل الجامعية بنفس الكلية
مؤلف لسلسلة من الكتب المدرسية لتدريس اللغة الاسبانية, كما لأبحاث في الأدب الاسباني القديم, وحوار الحضارات. 

Comentarios