أطفال بضاعة للتسول بقلم:الأستاذ محمد الموذن


    لم يعد التسول في حاضرنا مجرد وسيلة للفقراء والمحتاجين لسد الحاجة، والتخفيف من ضنك العيش، أو مجرد ظاهرة اجتماعية تظهر وتختفي حسب الظروف، وتردي أحوال الناس الاقتصادية، يضطر إلى ممارستها في ظروف عصيبة من اشتدت حاجته، أو وهن عظمه وضعفت صحته، أو تقطعت به السبل، وانعدمت لديه فرص الشغل، وكسب الرزق الحلال، بل أصبح التسول عند أغلب المتسولين مهنة مدرة للربح، وتجارة رائجة، تحولت إلى قطاع اجتماعي غير مهيكل، ونشاط تجاري معفى من الضريبة على الدخل، وسلوك مشين للوطن لا يعاقب عليه.
   والتسول مدخل للانحراف والحرمان، قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "من فتح على نفسه بابا للتسول فتح الله له به سبعين بابا للفقر"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهو عنوان عريض للاستهلاك السلبي، وإهدار لطاقة المجتمع، وتعطيل لعجلة التنمية البشرية والاقتصادية، ومؤشر على انهيار منظومة القيم لدى فئة كبيرة من المجتمع المغربي، فظاهرة التسول الاحترافي وصمة عار على خريطة الوطن، يجب التصدي لها بكل الوسائل الممكنة، وبكل حزم وإرادة، ومعالجة مسبباتها، وتطهير شوارعنا من مظاهرها المشينة، وحماية مجتمعنا من عواقبها الوخيمة.
    التسول تجارة بضاعتها كرامة الإنسان، وسلعتها مظاهر التشرد والبؤس والحرمان، ووسائلها القدرة على التأثير في وجدان المحسنين، إن التسول الاحترافي سوق مفتوح على مصرعيه، لا تحده ضوابط ولا عقود، ولا مجال مكاني أو زماني محدود، سوق حرة لتجارة محظورة بحكم القانون والأخلاق، يعرف منافسة شرسة بين الفقراء والمساكين وصناعي العاهات، والمستثمرين في الإعاقات الجسدية والذهنية، فقد تجاوز المستوى الفردي ليتحول في كثير من الحالات إلى "مقاولات الصغرى" احتكرت السيطرة على أهم فضاءاته وأسواقه في هذه السوق الوطنية الكبرى يعرض الأطفال كأهم بضاعة لجلب الشفقة، وانتزاع الصدقة من المحسنين المقيمين، ومن السياح والأجانب والزوار، تتخذ من محيط المساجد والمستشفيات والصيدليات، ومن الساحات العمومية والمحطات، ومن الشوارع والأزقة والمقابر، ومن مفترق الطرق وموقف السيارات، ومن كل شبر في هذا الفضاء أو ذاك واجهة لها لعرض مظاهر البؤس والحرمان والتشرد على زبناء مفترضين، صور صادمة تكدر صفو النفس، وتستفز المشاعر، تؤرق المواطن في الحقيقة والواقع، وفي اليقظة والحلم. في سوق التسول يعرض تجار العاهات الجسدية، والإعاقات الذهنية، ومستغلو أوضاع الأطفال الأسرية والاقتصادية بضائعهم البشرية على ضفاف الهشاشة الاجتماعية: هذا طفل معاق ذهنيا، وذاك طفل يعاني من إعاقة بدنية، والآخر طفل رضيع، وتلك طفلة في عمر أكمام الزهور قطفها التسول قبل الأوان، وتلك وردة تذبل في حجر أمها المتسولة، وهذا طفل يردد بصوت حزين لازمة الاستجداء، حفظها عن ظهر قلب بدل أن يحفظ دروس مقرر التعليم، وهذا طفل آخر كان من المفروض أن يعيش طفولته البريئة، يمرح ويلعب، عوض أن يتحول إلى بضاعة تعرض على المحسنين في سوق التسول، وهذا طفل يسير جنب أبيه في طريقه إلى المدرسة، ينظر في حسرة إلى قرين له يجلس بين أحضان متسول محترف، وكأنه سجين أحكم قيده بجدار مؤامرة الصمت، أو معتقل أدمى معصمه عقال الاستغلال، أو مريض أهمل في قسم المستعجلات، شحب لونه من جراء وطأة سوء التغذية، وشتى أصناف الحرمان، تبادل الطفلان النظرات، ودار بينهما حوار صامت، تعجز عشرات المقالات والصفحات عن الإحاطة بدلالاته، وبخطى تلقائية وسريعة توجه الطفل المتمدرس إلى الطفل المتسول، فاحتضنه وشده إليه، طال العناق بين الطفلين، عناق الفطرة والبراءة، لم تستطع المسافات الاجتماعية والاقتصادية البعيدة أن تجهضه أو تغتاله، أو تقطع هذا التجاذب الفطري بين الطفلين، الذين ساوت بينهما شريعة الله، ومواثيق حقوق الإنسان، وباقي القوانين و الأعراف، وفرق بينهما.
 الواقع وسياسة التهميش الاجتماعي واللامبالاة. الواجب الوطني ومصلحة البلاد يفرضان على السلطة التنفيذية، وعلى صناع القرار أن يتجاوزوا مرحلة إصدار القوانين، وتحنيطها في أرشيف الإدارة بدل تفعيلها على لأرض الواقع، وللتذكير فقط، إن كان لهذا التذكير صدى يذكر، أو صوت يسمع، أو تأثير في الضمير الحي، نلفت الانتباه إلى أن المغرب كان من الدول العربية والإفريقية السباقة إلى التوقيع على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتفعيلا لمضامين هذا الإعلان أنشأت المملكة المغربية المرصد الوطني لحقوق الطفل، ثم برلمان الطفل، الذي من أهدافه ومهامه الأساسية مناقشة مجالات التشريع، والحماية القانونية للأطفال من مختلف أنواع الاستغلال، وسوء المعاملة والاستعباد، وكذلك حماية الأطفال الذين يوجدون في وضعية صحية أو اجتماعية صعبة، والذين هم في حاجة ماسة إلى التدخل والرعاية. لست أدري.
 هل المسؤولون في الحكومة، وفي الغرفة التشريعية الثانية، وفي البرلمان في حاجة إلى تذكيرهم ببعض بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وخاصة ما يتعلق بحقوق الطفل، أم أنهم يعلمون، ولكنهم فقط يتكلمون، ويقولون ما لا يفعلون.
لكل بنيان أساس، ولكل هرم قاعدة، ولكل رحلة بداية، فالبناء تتحدد قوته وصلابته، أو ضعفه وهشاشته قياسا على نوعية أساسه ونسبة جودته، كما أن شموخ الهرم وسموق قمته وعلوها يكون حتما رهينا بمساحة قاعدة الهرم في ضيقها أوامتدادها، أما رحلة العمر ففي بدايتها تتحدد وتسطر الأهداف التربوية والاجتماعية والمادية كذلك، ووسائل تحقيقها. غياب التخطيط التنموي والعدالة الاجتماعية، التي لم تتجاوز مرحلة الشعارات ووعود الحملات الانتخابية وخطب المنابر، مرآة تعكس بصورة جلية هشاشة سياسية التشغيل، وتكرس برامج البطالة، في تلك الفضاءات الحبلى بأطفال الشوارع يتناسل اليأس والإقصاء، فيولد لدى الأطفال الشعور بالاغتراب في وطنهم، فيدفعهم إلى الهروب من ذواتهم إلى شوارع وساحات لا تسيجها ضوابط أخلاقية، يمارسون بإرادتهم، بوعي وبلا وعي كل أشكال الممنوعات.
أطفال الشوارع قضية ومعضلة اجتماعية قد أجل النظر فيها إلى أجل غير مسمى. هؤلاء أطفالنا، هؤلاء أبناء الوطن وهم أبناؤنا، هؤلاء مستقبلنا، إنهم أطفالنا اليوم، وشبابنا غدا، وكما يقال: قوة الأوطان في شبابها، فكيف إذن نستمد قوتنا من شباب أغلبهم يفتقد ﺇلى تلك القوة؟، كيف نبلور طموح مجتمعنا عن طريق شباب قتل اليأس طموحه وآماله؟

. المبادرات الخجولة للتخفيف من وطأة الحزن والمعاناة عن هؤلاء الأطفال، لكنها تبقى ظرفية وغير كافية، وسرعان ما ينتهي الحلم الجميل، ويضغط الكابوس من جديد، وعودة إلى الشوارع وفضاءات المعاناة والضياع، إنها مجرد عقاقير مسكنة تؤجل معالجة الظاهرة الاجتماعية الخطيرة إلى الأمد المجهول، والحالة هذه أن الوضع الاجتماعي لأطفال الشوارع لا يحتمل الانتظار والتأجيل، بل يستوجب العمل على احتوائه، والظروف مواتية لجعل قضية أطفالنا المشردين في صدارة برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومن أولويات اهتمام الوزارات ذات الصلة بالطفولة والشباب، لمعالجة هذه الآفة الاجتماعية.

Comentarios