هجرة الإسلام وإسلام الهجرة في الأرجنتين بقلم: حسن أشهبار (*)

   

دخل الإسلام إلى الأرجنتين في منتصف القرن التاسع عشر من باب الهجرة السورية واللبنانية وتواصل هذا الدخول في العقود الأخيرة بتوافد أفواج هامة وبأعداد متفاوتة من المهاجرين من بلدان شمال وغرب إفريقيا ووسط وشرق آسيا، لاسيما من بانغلاديش وباكستان والسنغال وغانا وغينيا ونيجيريا والمغرب ومصر وتونس والجزائر وفلسطين والأردن.
   بيد أن كثيرا من أحفاد المهاجرين الأولين انصهروا داخل الوسط المسيحي إما نتيجة الزواج المختلط أو لعدم توفر مناخ ديني ملائم داخل الأسر المسلمة والمحيط الاجتماعي. والواقع أن المسلمين في الأرجنتين لا يشكلون سوى أقلية قد لا يتعدى عددها بضعة آلاف، خلافا لما يروجه بعض المغالين بالحديث عن أرقام بعيدة عن الواقع تقارب المليون نسمة. كما أن البعض من ضمن هاته الأقلية قد ينسب نفسه للإسلام أو يبدي غيرته عليه لمجرد أن أحدا من أبويه أو أجداده كان يعتنق دين الإسلام.
   ولعل اللافت للنظر بالأرجنتين هو أن هذه الدولة العلمانية تحرس سلطاتها المركزية كل الحرص على أن يكون لها "اسلامها الرسمي"، وذلك من خلال قسم الأديان التابع لوزارة الخارجية والديانات والذي يشتغل بتنسيق وتعاون معالمركز الإسلامي للجمهورية الأرجنتينية.
   ولا يعدو هذا المركز الموكولة إليه مهمة رعايةالإسلام الرسميأن يكون سوي مؤسسة ذات طابع مدني يديرها أشخاص في الغالب هم منتخبون من بين التجار وأصحاب المهن الحرة الذين قد لا يجيدون قراءة الفاتحة حتى، بل ولا يأتون الصلاة في المسجد إلا في المناسبات الكبرى، لكنهم يتنافسون، بالمقابل، بشدة من أجل الحصول على منصب في المكتب المسير إما لطموحات سياسية واجتماعية  وإما سعيا للاستفادة من هذه المناصب.
   ويتلقى هذا المركز أوالناديالذي يسهر علىالإسلام الرسميالأرجنتيني دعما ماديا هاما من قبل بعض الدول العربية الخليجية، فضلا عن كونه استطاع أن ينفرد لنفسه بالمصادقة على ما يطلق عليه مجازاالذبح الحلالوالتصرف في النسبة الألفية التي تسدد له بالمقابل،
   إنهإسلام لايتكما يحلو لبعضهم تسميته للتمييز بينه وبين الإسلام الوافد من الخارج بشقيه الشيعي والسني، والمتهم من قبل الأوساط المعادية بالتطرف والغلو. ويقال عن الإسلام الأرجنتيني إنه يتماشى مع روح العصر ثم إنه، لكونه تسامحي وتساهلي، تجده يحظى برعاية قصوى وتشجيع تام من السلطات المركزية ويتودد إليه زعماء الكنيسة والمنظمات اليهودية والطائفة الشيعية وممثلو بعض السفارات الأجنبية.
الإسلام اللارسمي
   لقد حدثت ضجة عارمة عندما رخصت حكومة الرئيس الأسبق كارلوس منعم (1989-1999) وهو مسيحي من أصل عربي سوري، بإنشاء مؤسسة ثقافية إسلامية عملاقة في العاصمة بوينوس آيريس شيدت في منطقة استراتيجية وسط حي من أرقى الأحياء السكنية على نفقة المملكة العربية السعودية أطلق عليها اسم "مركز خادم الحرمين الشريفين الملك فهد الثقافي الإسلامي في الأرجنتين".
   وقد واجهت هذه المؤسسة، منذ نشأتها، اتهامات من شتى الأطراف الدينية المتعصبة التي شنت ضدها حملة شنعاء، ولكنها مضت قدما واضطلعت بدور ريادي هام في دعم الجالية المسلمة، منذ تدشين المركز سنة 2000 من قبل ولي العهد السعودي آنذاك، الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، الذي أراد له أن يكونمنبرا تشع منه أنوار الحضارة العربية الإسلامية للمسلمين ولغير المسلمين".
 ولم تقتصر تلك الحملة على مهاجمة الكنيسة للمشروع بجميع ما لديها من إمكانات، متهمة العربية السعودية بمحاربتها للمسيحية فوق ترابها، بل تطورت وباتت ممنهجة وواسعة النطاق، حيث شاركت فيها فرق دينية تنتسب إلى الطوائف اليهودية والشيعية التي سخرت لهذا الغرض وسائل إعلام قوية تتحكم فيها مصالح اتهمت الوهابية بالتكفيرية في حق المسلمين الأرجنتينيين.
   فلم يكن من السهل إذن مباشرة عمل المركز في ظروف صعبة مثل هذه، للتعريف بحقيقة الإسلام ومبادئه لولا تلك العزيمة القوية التي تحلى بها وأبداها ذلك الجيل الأول من المدراء والأئمة.  لكن هذا الدور تقلص خلال السنوات الأخيرة إلى حد الجمود لدرجة أن المركز على الرغم من سعته وتعدد مرافقه وكثرة مستخدميه أصبح جسدا بلا روح، حيث تراجع عدد تلاميذ مدرسته الابتدائية إلى النصف وأسقطت من مشاريعه الأقسام الإعدادية. بل وحتى مسجده الأعظم، الذي تخلت عنه أعداد من المصلين، يفتقد اليوم إلى إمام رسمي قار.
   ولن نفشي سرا إذا قلنا إن السلطات السعودية ليست في غفلة عن هذا وأنها على اطلاع عن الوضعية السائدة بسبب الأخطاء في التخطيط والتدبير. وللنظر في هذا الأمر أوفدت الرياض إلى بوينوس آيريس خلال الأشهر الأخيرة عددا من المسؤولين والوفود، كان آخرها لجنة التقصي التي ترأسها، نهاية شهر مارس المنصرم، وكيل وزارة الشؤون الإسلامية عبد الرحمن بن غنام الغنام ورافقه خلالها وفد هام يمثلون عددا من  الوزارات المعنية بالملف.
   وعلم من مصادر مقربة أنه نتيجة لما عاينته اللجنة، فقد تقرر إعادة النظر في سياسة التسيير الإداري والحد من الارتجال السائد والقيام بمراجعة دقيقة لمشاريع المركز المستقبلية ومخططاته التربوية والتعليمية ونشاطاته الترفيهية والتواصلية بإسناد المهام التنظيمية إلى أهلها "ضمانا لنجاح رسالته".
بيت المقدس الصغير
   وتأتي هذه الوقائع متزامنة مع تنامي أنشطة جماعة إفريقية-آسيوية على الساحة الأرجنتينية، تهتم بالمجال الدعوي وتحفيظ القرآن الكريم اتخذت منحي أونسيوهو حي شعبي وتجاري اشتهر منذ القدم بقاطنته اليهودية والمسيحية، مقرا لها، فاستكمل فيه التجانس بين الأديان السماوية الثلاثة وأصبح يطلق عليه اسمبيت المقدس الصغير".
   ومن الملاحظ أن الأغلبية الساحقة من المترددين على هذا المصلى الإفريقي-الأسيوي إما أنهم من فئة المسلمين الجدد أو من الأفارقة حديثي العهد بالهجرة والقادمين من غرب القارة الأفريقية، غالبا ما يجيدون تلاوة القرآن باللغة الغربية، فضلا عن كونهم  ممن يعتز الجميع بأخلاقهم الدينية المثالية.
   وقد تواصل توافد المصلين علىالمسجد الإفريقيخاصة بعد تراجع الإقبال النسبي على مسجدمركز خادم الحرمين الشريفين الملك فهد الثقافي الإسلامي في الأرجنتينوالمسجد الأحمدي التابع لالمركز الإسلامي للجمهورية الأرجنتينية".
وبشهادة العديد من هؤلاء فإنه على الرغم من ضيق الحيز المكاني وبساطته، إذ  يتكون من حجرة متواضعة بغرفتين مشتركتين وحمام في الطابق الأول من عمارة بشارع الإكوادور، فإن الجماهير وجدت فيه ضالتها وتؤمه عن طيب خاطر من شتى أحياء المدينة.
   ولا أدل على هذا من أن صلاة الجمعة عادة ما تقام فيه مرتين لعجز الحيز عن إيواء أزيد من  120 مصليا دفعة واحدة. وهكذا تصلي مجموعة أولى ثم تليها مجموعة ثانية بفارق نصف ساعة من الزمن.
ولنا عودة لهذا الموضوع بمزيد من التفاصيل.

(*) بالاتفاق مع الكاتب الذي نشر التحقيق في النسخة الرقمية لوكالة (نوتيلامار) بالأرجنتين.

Comentarios