مغاربة أمريكا اللاتينية بقلم: حسن اشهبار (*)


كم عدد المهاجرين المغاربة أو المنحدرين من أصل مغربي الذين تحتضنهم اليوم بلدان أمريكا اللاتينية ؟ لا أحد يستطيع أن يجزم بالرد عن هذا السؤال إلا بجواب تقريبي، لعدة أسباب أهمها غياب الإحصاءات بشأنهم ثم التزايد المستمر للوافدين الجدد. ويتقاسم الذنب في هذا الفراغ الإحصائي كل من المهاجرين أنفسهم لتفاديهم التواصل مع القنصليات المغربية إلا في حالات استثنائية أو عندما تقتضيه حاجة ملحة ثم التقصير الصارخ في التغطية الشاملة لجميع المناطق من طرف المصالح القنصلية.
وقد عرف تاريخ هجرة المغاربة إلى أمريكا اللاتينية إجمالا مرحلتين أساسيتين ابتدأت أولاهما مع بزوغ القرن التاسع عشر وشملت بانفراد الجالية اليهودية. أما المرحلة الثانية وهي تلك التي خصت الجالية المسلمة فهي حديثة العهد ولا تزال في طور التكامل إذ بدأت بطيئة في نهاية القرن الماضي وتقوت خلال السنوات الأخيرة مزامنة مع الصحوة الاقتصادية التي عرفتها غالبية بلدان المنطقة وخاصة منها البرازيل والأرجنتين والشيلى.
المرحلة الأولى
استقر المهاجرون اليهود المغاربة في شمال البرازيل حيث أنشئوا في مدينة “بيليم” عام 1824، أي بعد سنتين فقط من  استقلال البلاد، أول معبد لهم أطلقوا عليه فيما بعد اسم “باب السماء" قدموا من المغرب بإغراءات إشهارية ووعود من السلطات المحلية في محافظة  “بر الكبرى” في مطلع 1810، غير أن أول سجل رسمي لأسمائهم يرجع إلى عام 1824. ويعتبرون من أعرق الجاليات اليهودية في البرازيل ومن الذين ساهموا بالخصوص في التقدم الاقتصادي وإنشاء عشرات من القرى في بيليم وفي المناطق الشمالية الشرقية والأمازونية. وقد نسجت حكايات طريفة بشأن المغامرات الأمازونية لبعض أفراد هذه الجالية بحثا عن أسباب الثروة لكن أغلبهم فضل في النهاية الاستقرار والعمل في مناطق مناخية أكثر حفاوة وأشبه بالمتوسطية التي قدموا منها قبل انتقالهم لاحقا إلى كبريات العواصم مثل ريو دي جانيرو وساو باولو وبورتو أليغري.
ونزل اليهود المغاربة أيضا بعديد من بلدان أمريكا اللاتينية منها ألأرجنتين وفنزويلا وبعض جزر الكاريبي مثل كوبا وكورساو حيث نزحوا مباشرة وبكثرة بعد حرب تطوان 1859-1860
ويتبين من خلال الوثائق التاريخية أن استقرار اليهود المغاربة في فنزويلا كان مرتبطا كما كان الشأن بالنسبة لشمال البرازيل بسهولة العبور بحرا عن طريق الجزر الخالدات ثم جزيرة كورساو في الحوض الكاريبي.
وهنالك اعتبارات أخرى لهذا الخيار كالعناية التي حضي بها اليهود بصفة عامة في كولومبيا الكبرى (فنزويلا وكولومبيا) خلال الحرب التحريرية التي خاضها سيمون بوليفار ضد اسبانيا 1811 بدعم سياسي من يهود كورساو.
ويعتبر المغاربة أول فوج من يهود حوض البحر الأبيض المتوسط الذين استقروا في الأرجنتين قبل السفارديين القادمين من بلدان جنوب أوروبا والإمبراطورية العثمانية إذ أنشئوا أول معبد لهم في بونوس ايريس عام 1860
وفي عديد من الحالات فإن الإلمام بالإسبانية كان من الأسباب التي جعلت السلطات الأرجنتينية تبادر في البحث على استقطاب اليهود المغاربة من أجل مساعدتها على تلقين مبادئ هذه اللغة لمهاجرين اخرين نزحوا من أوروبا الوسطى والشرقية.
وليس من المستغرب أن نجد اليوم نخبة من اليهود المغاربة تتألق أسماؤهم في ميادين متعددة في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية. من بينهم على سبيل المثال التطواني "فورتوناتو بنعيم" وهو من أشهر أطباء الأرجنتين والمدير المؤسس والرئيس لمعهد المحروق ثم التطواني "شلومو بنحمو أنجار"، كبير رجال الدين في نفس البلد وشقيق هذا الأخير أبرهام الذي يحتل نفس المكانة في البيرو أو الطنجاوي "سلمون كوهن" في فنزويلا.
 المرحلة الثانية
هذه المرحلة التي شملت بالخصوص الجالية المسلمة حديثة العهد إذ تعود إلى نهاية القرن العشرين. وقد لا يتعدى عدد هؤلاء المهاجرين العشرة أفراد في بلدان تعتبر كبرى من الناحية الاقتصادية كالبيرو وكولومبيا وفنزويلا.
واستهدفت الهجرة الحديثة كلا من الأرجنتين والشيلي  حيث يقيم حاليا ما يقرب من 150 شخصا في كل بلد  ثم البرازيل الذي يستضيف ما يقرب من 1500 شخص حسب التقديرات وأقل من 500 حسب المصالح القنصلية.
وقد يعتبر هذا العدد جد متواضع إذا قورن بباقي الجاليات العربية مثل اللبنانيين (حوالي 6 ملايين في البرازيل فقط) والسوريين (حوالي مليونين في الأرجنتين) والفلسطينيين (350 ألف في الشيلي) ولكنه جد مرتفع بالمقارنة مع الأقليات الأخرى مثل الجزائرية والتونسية والمصرية والعراقية والأردنية.
ويعزى هذا الفارق إلى سببين أولاهما القرب الجغرافي النسبي وثانيهما أن المواطنين المغاربة هم الوحيدون من بين غيرهم من العرب والمسلمين الذين يسمح لهم بزيارة البرازيل دون الحاجة ألى تأشيرة لكن بمراقبة صارمة من طرف شرطة الحدود التي تقوم بفحص دقيق للوثائق لتحديد هوية الزوار.
 وأغلبية المهاجرين المغاربة ومنهم علماء أجلاء كالإمام والشيخ محسن الحسيني رئيس هيئة الدعاة بالبرازيل والصادق العثماني وغيرهما من أساتذة ومثقفين وفنانين وتجار وحرفيين استقر أغلبهم في القطب الاقتصادي ساو باولو وضواحيه وفي ريو دي جانيرو والشمال الشرقي للبلاد.
وترى أوساط الجالية أن عدد المهاجرين المغاربة ازداد مع مرور الأيام والأعوام باعتبار عامل التجمع العائلي وربما أيضا مع بدء الرحلات الجوية بين الدار البيضاء وساو باولو التي باشرتها شركة الخطوط الملكية المغربية ابتداء من التاسع من شهر ديسمبر 2013
وتجدر الإشارة إلى أن الجالية المغربية في البرازيل تعاني من عدد من المشاكل أكثر من غيرها في باقي بلدان المنطقة نظرا  لبعد المسافات بين المدن البرازيلية والعاصمة الإدارية برازيليا الشيء الذي يعرقل مهمة المصالح القنصلية من أجل حل مشاكل هذه الجالية خصوصا فيما يتعلق منها بالوثائق العدلية أو بملفات الوثائق الشخصية. ويقوي من وطأة هذه المشاكل عدم وجود أطر جمعوية وتنظيمية لأفراد الجالية وذلك بسبب فشل عديد من المحاولات لإنشاء جمعيات للمهاجرين تسهر على الدفاع ورعاية مصالحهم المشتركة.
 وبالرغم من جميع العقبات فإن المهاجرين المغاربة الذين توافدوا على أمريكا اللاتينية خلال العقدين الأخيرين وأغلبهم من الشباب المتعلم والواعي وبعضهم حامل لشهادات جامعية أو تقنية تؤهلهم للعمل في جميع المرافق ألاقتصادية  يتمتعون بسمعة طيبة وهو ما يساعدهم على التأقلم بسرعة مع الأجواء السائدة في المنطقة.
 ونضيف أن قانون الهجرة الأرجنتيني يشكل آلية هامة تشجع على التصرف الإيجابي للمهاجر مغربيا كان أو غيره. فبخلاف ما هو متداول في أوروبا وغيرها من الدول المصنعة نجد هذا القانون يتعامل بتسامح مع المهاجر مهما كانت جنسيته فلا يجرمه ولا يعرضه للطرد في حالة تواجده في وضعية غير قانونية ويعامله معاملة انسانية تضمن له ولذويه جميع الحقوق المستحقة في العلاج الطبي والتعليم المجاني  وحرية التجول.
ونلاحظ من جهة أخرى أن مبررات هجرة المغاربة قد لا تكون اقتصادية محضة كما هو الشأن بالنسبة لعديد من الشباب المقيمين حاليا في الأرجنتين. فمن بين هؤلاء من كان يؤدي وظائف جد محترمة في المغرب تخلى عنها للالتحاق بأزواج أرجنتينيات أو أرجنتينيين تعرف بعضهم عن بعض إما في المغرب أو أوروبا أو عن طريق شبكات الاتصال.
 غياب التأطير
أما في البرازيل فالجالية المغربية فرضت وجودها من حيث العدد والمؤهلات ولكن تنقصها الهياكل المؤطرة وتنظيمات جمعوية سليمة لكي تنخرط في صف الفعاليات المؤثرة في خلق الأحداث في البلاد.
فمن المؤسف أن نسجل وبامتعاض كبير أن كثيرا من المبادرات الرامية إلى خلق نسيج جمعوي مغربي في البرازيل باءت بالفشل بسبب النزاعات المفتعلة والتي لا مبرر لها سوى المنفعة الفردية على حساب المصلحة العامة.
ولا بد من التذكير هنا  بالدور الإيجابي الذي لعبته مثلا الغرفة التجارية البرازيلية المغربية في ساو باولو كوسيط في حل بعض مشاكل الجالية أو الوافدين الجدد على المدينة وحتى مشاركتها في تنظيم أنشطة ثقافية.
غير أن جميع أنشطة هذه الغرفة جمدت تماما قبل أن يصيبها الشلل نتيجة عدم التوافق بين رئيسها ونائبه والتراشق بينهما بالاتهامات الخطيرة مما أدى إلى اندثارها على أرضية الواقع لعدم تجديد مكتبها إضافة إلى سحب ثقة السفارة منها.
ولم ترق هذه المؤسسة إلى صف نظيراتها العراقية واللبنانية ولا حتى الموريتانية التي تتمركز جميعا في ساو باولو ناهيك عن الغرفة السورية التي أنشئت قبل نصف قرن وتطورت فيما بعد لتحمل اسم الغرفة التجارية العربية البرازيلية وتصبح المخاطب الرسمي للسلطة المركزية وواحدة من اكبر آليات التغلغل التجاري البرازيلي في العالم العربي.
ويضرب المثل أيضا بالغرفة العراقية التي أنشئت بعد نهاية حرب الخليج الأولى لتصبح في ظرف وجيز مؤسسة اقتصادية قوية تلعب دورا رئيسيا قد يكون أهم من المهمة التي تضطلع بها السفارة العراقية في برازيليا في تنشيط التبادل التجاري والعلاقات الثنائية بين البلدين.
أما الغرفة المغربية فعلى الرغم من أنها لم تكن ضرورية لتنمية العلاقات التجارية مع البرازيل نظرا للانفتاح الاقتصادي للمغرب فإنها لعبت دورا تأطيريا كبيرا كمؤسسة محترمة أو كنقطة مرجعية وكان من المؤسف أن تموت بسبب الحسابات الشخصية.

(*) هذا التحقيق نشره الصحافي المغربي، الحسن أشهبار، في الموقع الرقمي لوكالة (نوتيلامار) بدولة الأرجنتين، حيث ينتمي الى هيأة التحرير، وننشره بإذن خاص منه.
ويمكن أن يكون أرضية لمشروع دراسة مفصلة، لأنه يتوفر على أسس متينة. انها متابعة صحفية ثمينة نتمنى دعمها لتتوسع الى آفاق أخرى في نفس الموضوع.

(*) وكالة "نوتيلامار" أداة اعلامية حرة ومستقلة، نشأت بمجهود فريق من الصحافيين المهنيين بالأٍرجنتين. هدفها ربط الجسور والتعاون والتقارب بين دول أمريكا اللاتينية والعالم العربي وتقريب القراء والمهتمين من التفاعل بين الجانبين عن طريق الأخبار في الاتجاهين ومقالات الرأي والتوثيق التاريخي، بالاعتماد على قيم السلم والتفاهم بين الشعوب ورفض كل أشكال التمييز العنصري، الديني والثقافي، كيفما كان نوعه. وقد نشأت الوكالة وفي اعتبارها المستوى المميز للعلاقات بين الطرفين اعتمادا على القمة الأولى لدول أمريكا الجنوبية والدول العربية التي انتظمت في شهر ماى من عام 2005 بالعاصمة البرازيلية. 

Comentarios