صحيفة السبيل الأردنيه الأربعاء 22 شوال 1437 – 27 يوليو 2016 حضور في زمن الغياب - فهمي هويدي http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2016/07/blog-post_68.html


 
في الأخبار أن القمة العربية التي انعقدت في نواكشوط وصفت بأنها «قمة الأمل»،
وأكدت في بياناتها التمسك بمركزية القضية الفلسطينية في العمل العربي المشترك،
 وهو ذات المعنى الذي ردده الأمين العام للجامعة العربية في خطابه الذي ألقاه أمام وزراء الخارجية قبل القمة.
 إذ قال إن القضية الفلسطينية تظل القضية المركزية للأمة، التي تحتل «أهمية قصوى» على أجندة الحاضر والمستقبل.
كما أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية يظل تهديدا أساسيا للأمن القومي العربي.

لا يستطيع القارئ العربي أن يصدق كلمة واحدة مما سبق،
 فما كان ليس قمة عربية شهدتها العاصمة الموريتانية، وإنما كان مجرد «قعدة» عربية استغرقت ساعات محدودة يوم الاثنين٧/٢٥ (حضرها ٨ رؤساء وأمراء وغاب عنها ١٤حاكما عربيا).
 
 أما الحديث عن مركزية القضية الفلسطينية فقد صار ادعاء كاذبا في الوقت الحاضر لا دليل عليه.
 
وحكاية «الأهمية القصوى» التي أشار الأمين العام للجامعة العربية مجرد تعبير بلاغي لا علاقة له بالواقع.
 
 أما اعتبار الاحتلال الإسرائيلي تهديدا أساسيا للأمن القومي العربي، فهو نكتة من شقين،
 
 أولهما أن شواهد الحال تدل على أنها لم تعد كذلك،
كما أن بعض الدول صارت تعتبر إسرائيل حليفا أساسيا وليس تهديدا أساسيا.
 
 الشق الثاني فإن حكاية الأمن القومي العربي لم تعد مأخوذة على محمل الجد من جانب أغلب، وربما أهم الدول العربية.
 إذ ما عاد أحد مشغولا بالأمن القومي، وإنما الكل مشغول فقط بالأمن السياسي المحلى وليس القومي.

بيان مؤتمر نواكشوط حوّل القضية المركزية إلى قضية لغوية، فضلا عن أن القمة كانت بمثابة إجراء روتيني فيه من القيام بواجب الحفاظ على العادة واستمرار التقليد المتبع منذ أكثر من نصف قرن (أول قمة عربية عقدت بالقاهرة عام ١٩٦٤)، حين كان للعرب حضور، ولهم رأس وجسم متماسك، وقبل أن يغيب الرأس وتختفي «البوصلة»، ويتحلل الجسم بصورة تدريجية.
 
 لذلك أزعم أن «قعدة» نواكشوط كانت أقرب إلى الديوانية التي توافد إليها بعض الحكام العرب من باب المجاملة، في حين رأت الأغلبية أنه حتى المجاملة لم يعد لها لزوم.

لا أظن أن شيئا من ذلك صدمنا أو فاجأنا. فقمة الإسكندرية (عام ١٩٦٤) قررت إنشاء قيادة عسكرية مشتركة مقرها عمان لمواجهة المخططات الإسرائيلية.
 
وبعد هزيمة ١٩٦٧ عقدت القمة العربية في الخرطوم وأطلقت اللاءات الثلاث الشهيرة (لا تفاوض ولا اعتراف ولا سلام مع إسرائيل).
 
وقمة عام ١٩٩٢ قررت استخدام القوات العربية لتحرير الكويت.
 
وقمة بيروت عام ٢٠٠٢ تبنت المبادرة السعودية التي دعت إلى التطبيع مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي العربية.
 
والقمة الاقتصادية التي عقدت بالكويت عام ٢٠١٠ دعت إلى تحقيق النهوض الاقتصادي والتضامني مع غزة بعد تعرضها للعدوان الإسرائيلي..إلخ.

الخلاصة أن مؤسسة القمة ــ في حدها الأدنى ــ لم تؤخذ بدورها يوما ما على محمل الجد،
 إذ تأسست تعبيرا عن حماس وغيرة في زمن المد القومي (كانت اقتراحا مصريا ردا على قرار إسرائيل تحويل مجرى نهر الأردن)،
 لكنها تحولت بمضي الوقت إلى مكلمة عربية لتسويق الأوهام ومحاولة تعطير الفضاء العربي من خلال مظاهر تقام واجتماعات تعقد وبيانات تصدر، ولا شيء من كل ذلك له علاقة بالفعل العربي
(أستثنى التعاون الأمني بين الأنظمة بطبيعة الحال).

إزاء ذلك فلعلنا نقول إن ما صدر عن قمة نواكشوط هو من جنس ما سبقه، لكنه اختلف عن سوابقه في الدرجة وليس في النوع.
 
ذلك أنه يعبر عن زمن الغياب الكبير الذي لم يختفِ فيه العالم العربي من خرائط السياسة الدولية فحسب، وإنما أصبحت أقداره تصنعها القوى الكبرى.
 
 وهذه لم تعد مقصورة على الدول الغربية بعدما انضمت روسيا إلى قائمة صناع مصيره.
ليس ذلك فحسب وإنما أصبح الصراع محليا، سواء داخل بعض الدول العربية ذاتها أو بين الأشقاء العرب والعجم، مقدما على الصراع ضد نفوذ الدول الكبرى أو ضد العدو الصهيوني.
 
ناهيك عن أن بعض القادة العرب أصبحوا يستقوون بالدول الغربية وإسرائيل للتغلب على أشقائهم الذين يختلفون معهم في المنطقة.

لا أعرف في التاريخ العربي المعاصر مرحلة شهدت مثل ذلك التشرذم والوهن الذي تعيشه الأمة في الوقت الراهن.
 فبعضه يذكرنا بنموذج ملوك الطوائف في إسبانيا (القرن الميلادي الحادي عشر) حين سقطت الدولة الأموية في الأندلس، وتحولت إلى أشلاء ضمت ٢٢ إمارة متحاربة فيما بينها.
وكان بعض الأمراء المسلمين يستقوون بالصليبيين المتربصين بالجميع، للتغلب على أشقائهم المنافسين.
 
يذكرنا المشهد أيضا بمصطلح «عهد السقوط» الذي استخدمه في مذكراته عالم الاجتماع العراقي الشهير الدكتور على الوردي، حين تحدث في مذكراته عن مرحلة ما بعد الاحتلال البريطاني للعراق (عام ١٩١٧).
 وذكر أن الناس دأبوا على وصف الذين ولدوا في تلك المرحلة بأنهم «أولاد السقوط».
 
إلا أنني حين قرأت بيان القمة ووقعت على خطبة الأمين العام للجامعة، ووجدت أن الواقع يناقض أهم ما جاء في هذا وذاك،
 
 استعدت على الفور رواية «١٩٤٨» للكاتب الأيرلندي جورج أورويل.
ذلك أنه تحدث عن مملكة وهمية يدار كل شيء فيها بالغش والتدليس.
فوزارة الحقيقة تتفنن في الكذب، ووزارة الوفرة تزيف الندرة، ووزارة السلام تقود الحرب، ووزارة الحب تشيع الكراهية وتبرر القمع...إلخ.
 
 وهو ما ينطبق على «القعدة» التي وصفت بأنها قمة الأمل.
كما ينطبق على مختلف الإشارات التي وردت في خطاب المؤتمر وأدبياته، التي جاءت على النقيض تماما مما نلمسه على أرض الواقع.

Comentarios