رسالة / إلى الرفيق محمود الغرباوي ... زعتر برّي / قصة قصيرة...

https://thumbp5-ir2.mail.yahoo.com/tn?sid=2052629440&mid=AO5EfbwAABBOVdh9awajOHOAGEw&midoffset=2_0_0_6_792024&partid=2&f=1728&fid=%2540B%2540Bulk&m=ThumbnailService
 
1.

هَمستُ في أذن الطبيب المُشرف على علاجي في مُستشفى " سانت فينسينت "  وهو مُنهمكٌ يبحث عن أيّ وريد في ذراعي علّه يجودُ بجرعة دم جديدة. :

عارف؟ قررت كتابة قصة قصيرة عنك، يا مصّاص الدم، رح أنشرها على صفحتي في الفيس بوك!

ضحك الطبيب الأسمر.
وتضامنت معه الممرضة الشقراء " ساندرا "، فضحكت هي الأخرى دونما سبب . هذه المخلوقة ترافقه مثل بطة سمينة متحفزة ومشغولة ولا تتعب .
غرز نصله في الشريان وظل يبتسم وهو يسحب جرعة الدم . وحين فرغ مني، رفع جسده الطويل، اعتدل تماماً، ثم سألني وهو يتذكر شيئا  :
- وين الزعتر البرّي ؟
- قريباً، أنا وعدتك. خلص ، ووعد الحر شو ؟
- دين عليه...قال.
2.
ولد الدكتور " أيوب " ، الأسمر،  في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة قبل نحو 50 سنة، ويمكن القول أنه ينتمي إلى جيل الانتفاضة الشعبية الكبرى . تلقى تعليمه  في مدارس الوكالة ثم سافر إلى المانيا حيث تخرج من جامعاتها في الطب الباطني. واليوم، ما شاء الله،  صار واحداً من أهم الأطباء الباحثين في علاج الأورام السرطانية ، ليس في ألمانيا وحسب، بل في أوروبا .  وهنا ، في مركز العلاج الخاص به ، الكل يُحبه، الكل يَنتظره ، الكل يسأله ، الكل يسأل عنه ، والكل يحسب له ألف حساب.
3.
قال في صوتٍ حاسمٍ، يَختم كلامه على ضوء نتائج الفُحوصات.
- باختصار هذا وضعك ، وهذه فرصتك. صار لازم  تقرر . ما معك وقت.
 سألته عن عدد الأيام المتبقية لي ..
أسبوعين.
قالها وهو ينظر في عيني تماماً.  أكمل الدكتور كلامه وهو يتفحص وجوه الرفاق الذين جلسوا حولنا
-     يمكن شهر. على أبعد تقدير.
وقع الصمت ثقيلاً فوق مكتبه. وبعد خمس ثوان، جاء صوته يحمل كلمات محددة واضحة كررها على مسمعي أكثر من مرة :
-     الأورام السرطانية اخترقت الكبد والبنكرياس والمعدة. يعني كل جهازك الباطني احتله السرطان وحالتك معقدة . صعبة، ومتأخرة جداً. هذا النوع من السرطان، عادة يجري اكتشافه مبكراً، وضعك أنت مختلف. المسألة مطولة. اسمع، عنادك مفيد، في حالة واحدة فقط، إذا قررت أن تقاتل وتعيش..
4.
كنا نتمشى في حديقة المستشفى. الشمس ورائحة المطر التي انبثقت من الأرض تُحرض على الذكريات والتدخين . أشعلت سيجارة وسحبت نفساً قويًا نفخته في وجهه الهواء. كانت زوجتي تسأل عن تفاصيل المرض والعلاج وتسجل ملاحظاتها في دفترها الصغير، هذا برنامج حياتي الجديدة، قائمة الأدوية ومواعيد الجرعات  وجلسات العلاج الكيماوي  . ثم جاء الأصدقاء، والرفاق الأطباء جاءوا أيضاً، وهلكوا زميلهم " أيوب " بالأسئلة والتفاصيل.

كان يقرأ عليهم من الأوراق بين يديه. وأحياناً - إذا أراد أن يتذكر شيئاً، ينظر إلى السماء، يُغمض عينيه، يُركزها مثل عيني نسر كأنه يصغي إلى جواب سرّي يأتيه من بعيد ، ولا يسمعه أحدٌ سواه.  .
تذكرت " رامي " . صديقي الذي اتصل بي من دمشق ، كيف نسيته؟ شعرت بالخجل. تفحصت وجوه " الشباب " حولي ، كانوا جميعهم تقريباً من قطاع غزة .
قلت لنفسي : كم مرة يتعين على غزة ان تنقذك ؟ ولا أعرف لماذا بكيت..


5.
بعد إجراء العملية الأولى، صحوت من " نومي " وسمعته يرطن مع الممرضات والأطباء حوله . لا أعرف كم مرّ من الوقت ، لكنه لما يزل هنا في الغرفة ، يرتدي معطفه الأبيض الطبي ويتنقل بين زاوية وأخرى في غرفة العمليات . ابتسامته العذبة لا تفارق ملامحه، حتى وهو يصدر توجيهاته الجادة الى زميلاته وزملائه. 
فكرت : هكذا يجب أن يكون القائد. .
مشى نحوي ، وضع بطن كفه على رأسي وسألني  :
-     آه ، كيف ؟
قلت :  منيح
والآلام ؟ 
تجاهلته وقلت : بدي أدخن . وحركت ذراعي ونصف جسدي.
- طيب. طيب قال.

.6
- آلو ؟
- مرحبا دكتور . نسيت أسالك إذا بدك هدية من البلاد  ؟ شقيقتي تزورني بعد يومين. كنافة ؟ حلو ؟ مخلوطة ؟ هريسة ؟ مرامية ؟ ملوخية ؟ لبن بلدي ؟ هذه فرصتك، يعني صار لازم تقرر . ما معك وقت كثير. !
لم يفكر طويلاً، جاء صوته كأنه يدعوني لانقاذه من الغرق. قال وكأنه يرجوني: زعتر برّي ، زعتر برّي من الضفة !
قلت: هل تعرف أن قرية المغار معروفة بأشهى وأشهر أنواع الزعتر الفلسطيني؟
معلومة جديدة . قال.  
ثم تحدثنا عن السرطان و آخر اخبار معبر رفح ..

7.
" خذني إلى غزة
أشعار حب، ساعدا
فتقًا من اللحم الممزق، حُنجرة
خذني..
فقد يحتاجني جدار، جرّاح
طفلة فقدت أخاها قرب المدرسة
فأرشدها الجنود إلى طريق المقبرة "

محمود الغرباوي.

Comentarios