مسيرة التطرف الإسرائيلي والانكسار الفلسطيني

أطلس للدراسات
منذ أكثر من عقدين طرأ تغيير استراتيجي كبير على الاستراتيجية السياسية الفلسطينية والعربية تجاه إسرائيل، استراتيجية المراهنة على تغير وتغيير إسرائيل من الداخل، ويرجع مرد هذا التغيير إلى ما أطلق عليه "الواقعية السياسية" من قبل البعض أو ما أطلق عليه البعض الآخر "الروح الانهزامية واليأس من طرق الكفاح العنيفة"، ويبدو انه كان للفلسطينيين سبب آخر، وهو شعورهم ان كفاحهم الثوري حقق غايته بالاعتراف بهم كجهة سياسية شرعية والاعتراف بشرعية حقهم في إقامة دولة، وقد استندت استراتيجية التغيير هذه على مرتكزين؛ الأول: خطاب سياسي معتدل يراعي متطلبات الواقعية السياسية ومطالب الشرعية الدولية، والثاني: يعتمد على المفاوضات برعاية أمريكية كخيار وحيد لانتزاع الحقوق، مدعومًا بتعاطف دولي ومغطىً بمظلة عربية إسلامية.
وبسطحية الغافل انتشى المفاوض الفلسطيني تفاؤلًا، حتى انه اعتمد في تفاصيل التفاهمات أو الاتفاقات على حسن نوايا المحتل، وقالوا ان الدولة باتت على مرمى حجر، وبدا العرب بالهرولة والتطبيع مع تل أبيب، وعاشت تل أبيب ربيعًا سياسيًا دوليًا غير مسبوق، كانت ذروته علاقات حميمية مكشوفة مع الأردن وقطر وموريتانيا، وعدم اعتراض العرب والفلسطينيين على شطب قرار الأمم المتحدة الذي وصف سنة 1975 الصهيونية كحركة عنصرية.
التغيير حدث فعلًا على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، لكنه تغيير عكسي بعكس المنشود، فوصل النظام السياسي الفلسطيني والحالة الفلسطينية برمتها إلى ما وصل إليه من تفكك وانقسام وعجز وتيه وفقدان للبوصلة نتيجة المراهنات غير المحسوبة والمدروسة التي لم تكن سوى ترجمة لحالة الافلاس السياسي والوطني، واليوم بات مصير الشعب الفلسطيني مرتبط بذلك، وهي (أي القيادة) باتت غير قادرة على الخلاص أو وقف السير السريع على منزلق التدهور.
أما على الجانب الإسرائيلي فالتغيير حدث عكسيًا، حيث المجتمع الإسرائيلي يسير كلية نحو اليمين السياسي والديني والعنصري، ويترجم ذلك نفسه عبر الخطاب السياسي والاجتماعي والديني لممثلي أطياف المجتمع الإسرائيلي داخل الكنيست، وأصبح من الصعوبة بمكان الوقوف على الفروق الجوهرية بين مختلف الأحزاب الإسرائيلية من قضايا كانت تشكل أولويات لبعضها مثل الاحتلال والاستيطان والسلام والعدالة وحقوق الانسان، وأصبح لليمين خمسين لونًا كما يقول الكاتب جدعون ليفي، والمجموعات التي كانت توصف بالأمس بالهاذية والاعشاب الضارة صارت اليوم جزءًا من الاجماع الإسرائيلي، وكلمة "يسار سياسي" تحولت الى كلمة شائنة وتهمة يجتهدون في حزب "العمل" على التنكر لها.
الكل يسير يمينًا ويخطب ود الجمهور اليميني من حزب "العمل" وحتى "ميرتس"، فالأولوية للأصوات والمقاعد وليست للأيديولوجيا والمواقف، فباتت الأيديولوجيات ما هي إلا أداوت تتغير وفقًا للمصالح والغايات، فحزب "العمل" يتنافس مع "الليكود" والفرق هو في اللغة والمفردات، وحزب "ميرتس" حسب خطاب غالؤون في مؤتمر نظمته حركة "السلام الآن" يبحث عن الشراكة مع حزب "العمل"، بعد يومين من المبادرة السياسية التي قدمها سكرتير حزب "العمل" حيلك بار التي تؤكد على وجوب بقاء القدس موحدة عاصمة لإسرائيل وضم الكتل الاستيطانية وبقاء مستوطنين في الدولة الفلسطينية، مساويًا بينهم وبين فلسطينيي الـ 48.
حيلك بار سكرتير حزب "العمل" ومعه رفيقه في الحزب ايتسك شمولي من أقطاب احتجاجات 2011، كانا قبل أيام قد شنا هجومًا كبيرًا على عضو الكنيست أحمد الطيبي، الذي كان قد استنكر تجند السياسيين للدفاع عن عملية قتل الفتى محمد الكسبة بدم بارد على يد قائد وحدة بنيامين، وأيد حزبهما بكامل أعضائه قانون تشديد العقوبات على ملقي الحجارة، وحسب رئيس حزب "المعسكر الصهيوني" يتسحاق هرتسوغ ففي القضايا الجوهرية لا يوجد فرق بين المعارضة والموالاة.
وحسبما تقول صحيفة "هآرتس" في افتتاحيتها يوم 27 تموز فإنه "لا يوجد يهودي واحد في الكنيست يؤيد فعليًا حق الشعب الفلسطيني في النضال ضد الاحتلال، وجميعهم يجرمون مقاطعة إسرائيل، ويصطفون خلف اليمين في الهجوم على منظمات مثل منظمة كسر الصمت التي يقوم عبرها بعض الجنود بتقديم شهاداتهم عن الجرائم التي يرتكبها الجيش في حملاته العدوانية ضد الفلسطينيين، حتى ان الحركة الكيبوتسية التي تعتبر دفيئة اليسار الإسرائيلي ردت على انتقاد لبيد لها على استضافتها منظمة كسر الصمت بأنها لا تتبنى آراء منظمة كسر الصمت وهي قامت بدعوتها مثلما تقوم بدعوة منظمات أخرى".
أما الجمهور الإسرائيلي فهو الآخر يزداد يمينة وتدينًا، وأفكار الصهيونية الدينية أصبحت الأكثر رواجًا والأكثر جذبًا وجاذبية، أفكارها وممثلوها يخترقون جميع الأحزاب تقريبًا، ولا يجرؤ اليوم أي قائد سياسي إسرائيلي على الصدام معهم أو حتى عدم مراعاتهم.
أحداث الصدام الأخيرة في المسجد الأقصى التي نتجت عن الاقتحامات الكبيرة والمتعددة للمسجد الأقصى من قبل أعداد كبيرة من اليهود، وما رافقها من خطاب سياسي وديني؛ تظهر بوضوح التوجه الإسرائيلي لكسر بعض الطابوهات في مدينة القدس أو ما كان يعرف بالوضع القائم، الوضع القائم الذي كان اقتحامات الحرم أو صلاة اليهود فيه ويمنح الوقف الاسلامي السيادة الكاملة عليه؛ كان يستند الى موقف سياسي وديني، سياسيًا كانت الحكومات الإسرائيلية أكثر اتزانًا وعقلانية وكانت تخشى استفزاز مشاعر العرب والمسلمين، وتقديرًا واحترامًا أيضًا لمكانة الأردن، ودينيًا كانت كل الفتاوي الدينية تحرم ما يعرف بالحجيج الى الحرم والاكتفاء بالصلاة أمام حائط البراق، تدريجيًا وعلى مدار مسيرة وسنوات طويلة بدأت هذه الطابوهات تتكسر وتخترق، فزاد جمهور المقتحمين وتنوعت ألوانه وفئاته ومستوياته الاجتماعية والسياسية، ولم يعودوا مجموعة هاذية وصار لهم ممثلين داخل الحكومة ويعكفون على تغيير الوضع القائم عبر فرض الأمر الواقع وعبر تغطيته بتشريعات قانونية، وسياسيًا واعلاميًا بتنا نسمع انتقادات كبيرة لرفض المسلمين لصلاة اليهود في المكان الأكثر قدسية لهم حسبما يزعمون، وثمة أحاديث عن ضرورة وضع ترتيبات تضمن حرية أداء الشعائر الدينية من ناحية وتضمن الأمن والاستقرار من ناحية أخرى، أما دينيًا فحاخامات الصهيونية الدينية، الذين بات صوتهم أعلى وأكثر إرهابًا، يفتون بعدم الحرمانية الدينية (للحجيج لجبل الهيكل)، بل وتدعو الى استعجال بناء الهيكل وعدم انتظار هبوطه من السماء لخلاص بني إسرائيل.
عن هذه التحولات كتب الصحفي بن كاسبيت (صرخات افيا موريس وزوجها "محمد خنزير والدعوة لهدم الأقصى" تعكس الوضع السائد، وهو تحول الأعشاب الضارة الى جمهور واسع، مستمر في الاتساع).
المعضلة لم تعد اليوم في من يقود إسرائيل، نتنياهو أو هرتسوغ، وليست حتى في الحزب الحاكم، بل هي في حالة التطرف الكلية للمجتمع الإسرائيلي، وفي امتلاك ممثلي الصهيونية الدينية على اختلاف أحزابهم لكل عوامل القوة والإرهاب والديماغوجيا، الأمر الذي يجعل من لا زال يراهن على تغيير إسرائيل بالكلمة الحسنى والديبلوماسية الناعمة جدًا ليس إلا شخصًا أو جهة تسعى فقط لتغطية عجزها وافلاسها بمقامرة مكلفة معروفة النتائج مسبقًا.
إسرائيل حقًا قابلة للتغيير إذا اضطرت لذلك، وفقط سننجح في الأمر عندما نستطيع أن نوحد إرادتنا خلف قيادة ومقاومة إيجابية جامعة لكل الشعب وحاشدة لكل طاقاته، تجعلهم غير قادرين على دفع أثمان احتلالهم وغطرستهم، وفي نفس الوقت لا تحملنا عبئًا لا طاقة للشعب به، تمكننا من المزاوجة بين المقاومة والبناء واستمرار الحياة.

Comentarios